استحقاقات الانتظار (الحلقة الأولى)
تسليط الضوء على أبرز مفردات استحقاقات الانتظار
منار العامري
تشير الروايات الشريفة إلى أن عصر ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه) والعهد الممهد لقيامه يزخر باستحقاقات وضرائب بالغة الأهمية، تحمل في طياتها تداعيات مصيرية. وهذه الاستحقاقات ليست خارقة أو إعجازية في طبيعتها، بل ترتكز على أسس موضوعية لا تنفصل عن الواقع، وتستوجب منا فهماً عميقاً ودراسة واعية. وفي سلسلة حلقات هذا البحث يمكننا تسليط الضوء على أبرز مفردات استحقاقات الانتظار التي تناولها الفضلاء، وكما يلي:
-
أولاً: البلاء
-
ثانياً: التمحيص والافتتان
-
ثالثاً: الانحرافات الفكرية والعقائدية
-
رابعاً: الآثار النفسية للانتظار
-
خامساً: الاستبدال
-
سادساً: التفرق والتشتت
-
سابعاً: الإعداد للمشروع الحضاري
ولتوضيح مضامين هذه العناوين سنشرع بشرح المفردة الأولى:
أولاً – البلاء
إن الروايات تؤكد وقوع بلاء شديد في الفترة القريبة من ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، يمر به العالم عموماً ولا سيما شعوب غرب آسيا. إلا أن شدته ستكون بشكل خاص على شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، لتصبح هذه المحنة الصبغة التي يكتسي بها الزمن القريب من الظهور الشريف.
النظر إلى هذا البلاء لا ينبغي أن يُفهم من زاوية العقوبة، لأنه شمولي يتغلغل في جوانب الحياة. فقد يكون اختباراً إلهياً يهدف إلى فرز أهل الإيمان الحق الذين يزدادون صلابةً وثباتاً في مواجهة المحن، ويميزّ أهل الريب الذين تتزلزل عقيدتهم أثناء البلاء. إن جوهر هذا الاختبار يمثل جزءاً من منظومة إعداد الأمة لمرحلة ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه).
ومواجهة البلاءات لا تكون بالهرب أو اللجوء إلى حلول عابرة، بل بالصبر الراسخ والإيمان العميق بأن هذه المحن ليست إلا بوادر فجر الخلاص والعدل الإلهي المرتقب. ومن هنا فإن فهم أسباب البلاء بعمق يعد المفتاح لمعرفة كيفية التعامل معه بوعيٍ ومسؤولية، سواء عبر معالجته أو التخفيف من آثاره السلبية. ولهذا فإن المجتمع المنتظِر ملزم بالتعامل مع هذا الأمر بجدية وحكمة، لأن البلاء يمسّ صميم استعداده للمرحلة المقبلة.
وقد وصفت الروايات الشريفة أنواع البلاءات، التي تختلف من حيث شدتها وأزمنتها وخصوصها وعمومها. وهذا التنوع جاء لتحقيق غايات تربوية تهدف إلى تنبيه المؤمنين وإعدادهم. ولم يكن حديث أهل البيت (عليهم السلام) عن البلاء لمجرد السرد أو الاستعراض، بل جاء كرسالة ربّانية تسعى إلى توعية الأمة وتنبيهها لأهمية الحذر والاستعداد، بما يسهم في تعزيز وعيها وقدرتها على استيعاب الأزمات قبل وقوعها. لقد أراد الأئمة (عليهم السلام) أن يزرعوا في النفوس روح المسؤولية لمواجهة المحن.
البعد القرآني للبلاء
خير شاهد على ذلك قول الله تعالى في سورة البقرة:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
هذه الآية الكريمة تنبئ المؤمنين بنزول البلاء بأشكاله المختلفة قبل الظهور الشريف، لكنها تختتم ببشارة عظيمة للصابرين، وهي تعجيل خروج القائم (عجل الله فرجه الشريف) (راجع كتاب كمال الدين وتمام النعمة: ٦٤٩-٦٥٠ ب٥٧، ح٣). إن الجمع بين التحذير من المحن وبين الأمل المرافق لها يمنح المؤمنين قوة وثباتاً في مواجهة الأزمات. وما تخصيص الآية المكافأة للصابرين إلا للتأكيد على ضرورة التسلح بالصبر. فقوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ يرسم لنا بريق أمل كنهاية مشرقة لكل أنواع البلاءات التي يواجهها المؤمنون بالصبر والثبات، ولا سيما بلاءات ما قبل الظهور.
ولو ارتشفنا من رحيق الآية (200) في سورة آل عمران، لوجدنا خارطة متكاملة للإرشاد الإلهي:
﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾
هذا الخطاب الإلهي يعانق الفرد والجماعة معاً: فقوله ﴿ٱصْبِرُواْ﴾ يضع حجر الأساس للصبر الفردي حيث يُختبر ثبات المؤمن أمام البلاءات الشخصية، ثم يعلو النداء في قوله ﴿وَصَابِرُواْ﴾ ليؤكد التكليف الجماعي الذي يتطلب صبراً متبادلاً وتكاتفاً يعزز التضامن المجتمعي. وتُختتم اللوحة الربانية بـ ﴿لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ لترسم ملامح الفرج القائم على الصبر والمصابرة والمرابطة.
أسباب البلاء
تتنوع أسباب البلاء بتنوع مصادره وظروفه:
-
فمنه ما يكون إلهياً يندرج ضمن سياق العقاب أو الثواب.
-
ومنه ما يكون انعكاساً لذنوب الأفراد أو الجماعات.
-
وثمة نوع آخر ينشأ من التهور، كالتصديق الأعمى بدعاوى الحركات المنحرفة قبيل الظهور الشريف.
-
أما البلاءات الناتجة عن التخلي عن المسؤولية تجاه الحق والباطل، فهي تؤدي إلى استفحال الظلم وانتشار الفساد.
-
وبعض البلاءات تكون حصيلة ترسبات الماضي، كأن يولد الإنسان في بيئة غارقة بالظلم دون أن تكون له يدٌ في نشوئه.
كل هذه الأسباب تؤكد أن البلاء ليس مصادفة، بل هو انعكاس تفاعلي لعوامل فردية وظروف اجتماعية متراكمة.
بلاء السراء وبلاء الضراء
من المهم الإشارة إلى أن بلاء السراء أشد خطراً من بلاء الضراء. ففي الأوقات العصيبة يدفع الخطر الإنسان إلى رفع مستوى اليقظة والحذر، بينما تؤدي أوقات السراء إلى الاسترخاء والغفلة، فتتراخى الدفاعات ويضعف الوعي بالمخاطر الكامنة في الرخاء. وعليه فإن المنتظر لإمامه إذا أصابته الضراء عليه أن يصبر، أما إذا أصابته السراء فعليه أن يواجهها بصبر مضاعف على المغريات.
كما يجب أن نعي أن البلاء ممرّ للفرج، فاليُسر جُعل نتيجة لكل عسر، كما قال تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾.
الخلاصة
يتضح لنا أن استحقاقات الانتظار ليست مجرد تحديات تختبر صلابة الإيمان، بل هي رحلة تربوية تهدف إلى تهذيب النفوس وإعداد المؤمنين لدورهم الأساسي في المشروع الحضاري القادم. فالبلاءات، سواء كانت فردية أو جماعية، تُشكل مدرسة للحياة تعلّم المؤمنين كيفية الاستعداد لتغيير العالم المتطلع إلى العدالة في ظل الحكومة المهدوية. ولا سبيل لتحقيق الغايات الكبرى كالفرج الإلهي إلا بالثبات على القيم الانتظارية وتحمل استحقاقاتها.
ما هو رد فعلك؟
أعجبني
0
لم يعجبني
0
أحببته
0
مضحك
0
غاضب
0
حزين
0
رائع
0





