مائة عام من شعلان
العشيرة بما تمثله من ثقل اجتماعي وأمني
محمد جواد الميالي
منذ فجر الدولة العراقية الحديثة، ظل التأثير فيها موزعًا بين ثلاث أركان رئيسية: الدولة بمؤسساتها، جماعات الضغط بمختلف صورها، والعشيرة بما تمثله من ثقل اجتماعي وأمني.
هذه المعادلة لم تكن يومًا جامدة، بل كانت في حركة شد وجذب بحسب المتغيرات السياسية والأمنية للبلاد. ما أن يضعف جزء حتى يقوى الآخر، لتصبح الأطراف الثلاثة مكملة لبعضها.
ثورة العشرين: العشيرة قوة وطنية
ثورة العشرين كانت المثال الأوضح، حينما تمددت العشيرة لتصبح قوة مساندة داخل الدولة. فـ شعلان أبو الجون لم يكن مجرد شيخ عشيرة، بل تحول إلى رمز وطني يعلن النفير العام ضد الاحتلال البريطاني. الرصاصة التي أطلقها صارت صدى يجمع القبائل من الفرات إلى دجلة، لتثبت أن العشيرة ليست كيانًا انغلاقيًا كما يُصور أحيانًا، بل مؤسسة اجتماعية وطنية تتحرك حين تعجز السلطة أو تتواطأ.
الحكم الملكي: العشائر والسلطة السياسية
الحكم الملكي أعاد للعشائر مكانتها بوسائل سياسية، إذ دخل الشيوخ إلى قبة البرلمان، وأصبح صوتهم جزءًا من التشريع. لم تكن سنوات الثلاثينيات مجرد سنوات عابرة، بل زمن يمكن وصفه بـ "عصر العشائر"، حيث تحول الشيخ من قائد اجتماعي إلى فاعل سياسي رسمي. كان الشيخ حينها محددًا ومهابا، فاسمه بطاقة مرور، وصوته أقوى من أصوات البنادق، وهيبته كافية لوقف نزيف الدماء.
العشائر في مواجهة داعش
الصورة لم تتغير كثيرًا حتى في العقود القريبة. تجربة الحرب ضد داعش برهنت أن العشائر ما زالت تحمل رصيد القدرة على الحشد والتضحية. حين أُطلقت فتوى الجهاد الكفائي، توحدت الصفوف بسرعة، وتحولت مضيفات العشائر لمعسكرات تدريب، ورجالها إلى مقاتلين يسابقون الزمن نحو الجبهات. تلك اللحظة أثبتت أن العشيرة إذا أخلصت نواياها تبقى خط الدفاع الأول عن الدولة والوطن.
ظاهرة مدّعي المشيخة
لكن المشهد بعد 2017 حمل انعطافًا خطيرًا. ضعف الدولة وهيبتها فتح الأبواب أمام تضخم ظاهرة "مدعي المشيخة"، فلم تعد العشيرة بحاجة إلى شيخ يُجمع أمرها. صار كل من يجمع بضعة بيوت يعلن نفسه شيخًا، يوزع المناصب في الولائم، ويتاجر بكرامة الناس تحت مسمى "الفصل العشائري". الهدف لم يعد الصلح، بل المكاسب المالية، والنزاع الذي كان يُحل بكلمة ومصافحة صار يُثمن بمليارات.
وسائل التواصل الاجتماعي حولت هذه الفصول إلى مسرح علني، وعبارة "إحنا فصلنا مليارين" لم تعد ضمن حدود العشيرة، بل صارت ترند يتداوله الشباب بسخرية. فهل يمكن تخيل أن مئة عام كانت كفيلة بأن تنتج لنا شعلان لكن بصورة مختلفة؟
مقارنة الأمس واليوم
يقف شعلان أبو الجون على ضفة التاريخ، ممسكًا بندقيته بوجه الإمبراطورية البريطانية، بينما يقف "شعلان المعاصر" على الضفة الأخرى ممسكًا بدفتر وصولات، يطالب بمليارين من أجل نزاع تافه!
الفارق بين الأمس واليوم ليس في اسم الشيخ، بل في طبيعة الدور. شيخ الأمس كان مظلة اجتماعية تحافظ على السلم الأهلي وتقي الناس من الفوضى، أما شيخ اليوم، أو بعض مدعي المشيخة، فقد حوّلوا الفوضى لرصيد مالي، والصلح إلى صفقة، والكرامة إلى وصولات صرف.
العشيرة بين السلم والفوضى
المجتمع العراقي اليوم يقف أمام مفترق طرق: إما أن تستعيد العشيرة دورها التاريخي كركيزة للسلم الأهلي وامتداد للهوية الوطنية، أو تصبح رهينة بيد من حوّلها إلى دكان مفتوح. إعادة الاعتبار للعشيرة لا تعني إلغاء الدولة، بل العكس: حين تعمل العشيرة بتناغم مع الدولة تتحول إلى عامل استقرار لا إلى منافس للسلطة.
الخطر المستقبلي
الخطورة تكمن في أن استمرار هذه الظاهرة سيعمّق الفجوة بين الأجيال. شباب اليوم الذين يسخرون من "فصل المليارين" قد ينظرون غدًا إلى العشيرة كعبء لا كحاضنة، وحينها نخسر مكوّنًا اجتماعيًا ظل لقرون صمام أمان في وجه الاحتلالات والأزمات.
ما هو رد فعلك؟
أعجبني
0
لم يعجبني
0
أحببته
0
مضحك
0
غاضب
0
حزين
0
رائع
0





