العالم الذي يريدونه لنا

ذرف ترامب دموعًا حارة كادت ان تحرك خديه على الضحايا في أوكرانيا من الروس والأوكرانيين

 0
العالم الذي يريدونه لنا

سمير عادل

يقول كارل ماركس، صاحب كتاب رأس المال والمفكر الأبرز في الألفية بحسب تصنيف هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عام 2000، إن "الإنسان هو أثمن رأس مال". لكن بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومن خلفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يسعيان لفرض عالمٍ تُجرد فيه البشرية من إنسانيتها.

قبل أكثر من شهر، ذرف ترامب دموعًا حارة كادت ان تحرك خديه على الضحايا في أوكرانيا من الروس والأوكرانيين، مطالبًا بوقف الحرب، موجّهًا إنذارات متكررة تارة لـفلاديمير بوتين وتارة لـفولوديمير زيلينسكي. لكن في غزة، من لا يُقتل على يد المنظمة المافيوية المسماة "جيش الدفاع الإسرائيلي"، فإن الجوع ينتظره كوحش كاسر، بفعل الحصار الاقتصادي المفروض على أكثر من مليوني إنسان.

نتنياهو، المطلوب لـالمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لا يزال حرًا طليقًا يواصل قتل المدنيين الفلسطينيين دون رادع، لأن الدول الغربية التي باتت تتسابق للاعتراف بـدولة فلسطين — تحت ضغط حركة التضامن العالمية ضد جرائم إسرائيل — كانت في السابق تمنح إسرائيل "الحق في الدفاع عن نفسها".

أما ترامب، فبينما يُظهر حرصًا زائفًا على دماء المتحاربين في أوكرانيا، فإنه يتجاهل دماء أكثر من 19 ألف طفل قتلوا في غزة، إلى جانب آلاف النساء والشيوخ والشباب، والقتل اليومي للجوعى على أبواب مراكز توزيع المساعدات التي تديرها منظمة تُسمى "منظمة غزة الإنسانية" والتي ليست فيها أية رائحة للإنسانية. وهو لا يملك نية حقيقية لوقف هذا الإجرام، بل يمارس دعاية جوفاء لا تتعدى محاولة ثني نتنياهو عن الاستمرار بالقتل. ولهذا استحق لقب TACO، الذي يُطلق عليه في الولايات المتحدة، بمعنى "الذي يتراجع دائمًا عن وعوده".

إن ما نشهده في غزة ليس فقط مجزرة، بل هو تجسيد للعالم الذي يريدون فرضه علينا. فعقيدة ترامب "السلام بالقوة"، تعني سحق من يعارض؛ نرى ذلك في الداخل الأمريكي كما في الخارج: مرشح ديمقراطي زهران ممداني لعمدة نيويورك يُفصح عن جرائم إسرائيل النازية، فيُطالب ترامب ترحيله من البلاد.

وفي مقال ترجمه موقع (إيلاف)، يوضح إدواردو بورتر، أحد الكتاب البارزين في صحيفة (واشنطن بوست)، في رسالة استقالته: إن جيف بيزوس ورئيس قسم الرأي الجديد يقودان الصحيفة نحو الترويج المستمر للأسواق الحرة والحريات الشخصية... وذلك خوفًا من تأثير دونالد ترامب على مصالح بيزوس التجارية.

طلاب الجامعات الذين يطالبون بوقف الحرب في غزة يُلاحقون ويُرحّلون. تُفرض العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لأنها أصدرت مذكرة توقيف بحق نتنياهو. تنسحب واشنطن من اليونسكو لأنها أدانت جرائم إسرائيل، ومن الأونروا لأنها تقدم مساعدات للفلسطينيين. وتُهدد بفرض رسوم جمركية على كندا إن اعترفت بـدولة فلسطين.

ترامب أشار سابقًا إلى ضرورة إلغاء منظمة الأمم المتحدة، دون أن يُفصح عن السبب، لكن من الواضح أن الأمر يرتبط بـالقضية الفلسطينية. كما أصدرت الخارجية الأمريكية قرارًا بمنع دخول أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية إلى الولايات المتحدة، بحجة أنهم "يقوّضون السلام". وجاء القرار مباشرة بعد مؤتمر "حل الدولتين" الذي قادته السعودية وفرنسا في نيويورك، وأيقظ الضمير الأوروبي، وخاصة فرنسا.

كل هذه الوقائع تُظهر أن ما يحدث في غزة ليس قرارًا فرديًا لـنتنياهو، ولا مجرد انعكاس لتحقيق مصالحه الشخصية، بل هو جزء من مشروع استراتيجي تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل من خلاله إلى فرض عالم جديد يخدم مصالح واشنطن المتراجعة عالميًا. إنها محاولة لوقف انحدار نفوذها عبر سياسات البلطجة الدولية.

أما تسارع الدول الغربية للاعتراف بـالدولة الفلسطينية، فليس بدافع صحوة ضمير بعد دمار غزة وازهاق أرواح أكثر من 60 ألف إنسان، بل هو انعكاس لمحاولاتها التخلص من الهيمنة الأمريكية، التي وصلت إلى حد تهديد كندا بالضم إلى الولايات المتحدة. هذه الدول، التي كانت شريكًا في صمتها، بدأت تشعر بضغط الحركة العالمية المناهضة لجرائم إسرائيل، خاصة بعد دخول عشرات الاتحادات العمالية على خط الصراع، وقرارات مقاطعة إسرائيل اقتصاديًا ودبلوماسيًا، ورفض تحميل السلاح المتجه إليها.

مرة أخرى، ما يحدث في غزة لا يمس الفلسطينيين وحدهم، بل يضع علامة استفهام كبيرة على إنسانيتنا جميعًا. لكن القصة لا تنتهي هنا، إذ إن هذا العالم — عالم ترامب ونتنياهو وبن غفير وسموتريتش — يُراد له أن يُفرض علينا. انتصار هذا العالم يعني هزيمة الإنسانية. ويعني العيش في جحيم لا يُطاق. لذلك، لا خيار أمامنا سوى الانتصار عليهم.

إن نجاح مؤتمر “حل الدولتين” الذي أشعل غضب الإدارة الأمريكية وأثار الاستياء في إسرائيل هو إحدى ثمار هذا النضال، ورفض عالمي صريح للعالم الذي يريدونه لنا.

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0