مروراً بالتجريد الى سواه.. ثلاث محطات للوصول

عين نيوز

يناير 26, 2019 - 08:03
 0
مروراً بالتجريد الى سواه.. ثلاث محطات للوصول
بدون وصف


ياسين طه حافظ

كنت بدء ثقافتي الفنية، بمزاج شخصي، بلا دراية، أدير وجهي عن التجريد وأرى فيه نوعاً من عبثيات ما بعد التاسع عشر. من بعد، شغلتني موسيقى الكلمات ثم رأيتني أعنى برسم الكلمة حتى لأبدل واحدة بأخرى لرسمها الأكثر رقةً أو جمالاً أو كما، أظن، ايحاءً . لكني بقيت ذلك الواقعي الذي يريد دليلاً.

ثم كنت صحبةَ استاذي شاكر حسن آل سعيد. يوماً أهداني كتاباً بالانكليزية عن التجريد شارك فيه ثلاثة كتاب. لم يغير من قناعتي. ولكن كان لي ثقافة فنية مضافة. هو طريقة تفكير كما هو طريقة تعبير. ثم رأيتني في ثلاث محطات، أولاها.
محطة نيتشه، مؤسس الذاتية الأول كما أفهمه، لكن نظرية الإنسان الجديد كانت أقوى من أن تمر بالادب والفن والفكر من دون أن تترك أثراً وأثراً عميقاً! هذه هي المحطة الأولى، محطة النظر الى الداخل لا الى الخارج . الداخل هو خزان التاريخ الشخصي واصداء العالم فالنظر له بثقة، بقوة.
المحطة الثانية، كانت بالانتباه الى اختلاف الأساليب واختلاف الكلمات وانبثاق الانتباه والحدس والرؤية الخاصة. هذا ما قدمته لي متاحف الفن في امستردام، باريس ، لندن وما شهدته لفنانين عراقيين حداثويين وقدامى. كيف يكون الحدس مشتركاً والانتباه الى شيء واحد مع اختلاف الكلمات والأساليب؟ هنا بدأ الإشكال الجديد أو الفهم. أنا الآن أمام وحدة الفنون عن طريق تكافؤ اللغات، عن المعنى وراء الاساليب، عن الفن في شتى أزمنته ومدارسه.
ثمة نوع من الجمال المنعزل عن الطبيعة الزمانية المكانية، جمال كوني حاضر أبداً. بقي أن نراه، أن نعبر عنه. هنا احترمت كل الآداب، كل الفنون، كل الأساليب والمدارس. صار شاغلي كيف يتجاوز الفنان المشاعر من أجل الوصول الى التعبير عن حقيقة الوجود الظاهري لعناصر الفن، كيف ينشغل الفنان تماماً بما يرى حتى يتآلف معه.
كانت لي مبكراً "تجربة في اللون" . كانت لي مبكراً "تجربة في الموسيقى". صار البحث عن عناصر الفن ونقائها التجريبي ..
من الخزين الثقافي ومن واقعيتي ادركت ضرورة الاحتفاظ بالمعنى. لكن الخطوط والاشكال تتمتع بخصائص روحية يمكن أدراكها، ويمكن نقل تأثيرها لكن يظل المعنى مهماً!
المحطة الثانية ليست مكان استراحة. مزدحمة هي وحركة العالم وحركة القطارات مستمرة، كما حركة الأفكار، مستمرة .. يجب تحديد مكان الوصول. كيف نفسر المعاني المشتركة، كيف؟ كيف ونحن نحس من هذا الأسلوب ومن ذلك المختلف عنه حقائق نقية وأبدية؟ هذه الحقائق كانت في الازمنة كلها من الكهف الى المتحف! حين أرى معنى أراه وأنا منعزل تماماً عن واقع الحياة، حتى اذا انتهيت منه عدتُ الى التفاصيل. المعنى لا يختفي في التفاصيل، هو في مملكته الابدية. هذه بداية لكتابة من نوع آخر. الفن انتقال الى عالم آخر، الى الاشياء مرئية لا كما يراها غيرك. هي غير ما هي عليه!
لو كنت رساماً لاستعنت بالخطوط، بالتنقيط، بخطفات لون، بترك الورقة بيضاء والكتابة أو الرسم أنا الذي أراه. أقرأ ما لا يُرى. لكنني في الحياة وبيني وبين الكون والإنسان وما أراه ...، خطاب. عدتُ واقعياً ملتبساً. الغموض أدرك الكتابة والوضوح ضمن أملاكي. هذا نقلني الى محطة ثالثة صرت فيها اقرأ الاشياء والكائنات. "شجرة ومطر" حققت آخر انتباه. فأنا صرت اقرأ الباب الخشبي العتيق. صرت اقرأ الوجوه. صرت أرى حياةً ومعنى في صمت العشب وخشوع الأشجار ساعة غيم ولا ريح. وفي صمت النهر والخرقة الملقاة والقميص معلقاً والزر المقطوع و "تينة نهر الشيخ" وخطفةُ شعر في "المترو" والقلم المطروح على الورقة يستفزني.. صرت اقرأ حيث أكون. كم واسعة هي الحياة الآن! الفن صانع حياة، يكشف شبكة من العلاقات المتبادلة ولا معنى واحد لكن معاني تتوالد من المعنى، من صراع المعنى والفنان أو الكاتب. هذا علمني الصمت في الرؤية والإصغاء للأصوات باحترام وانتظار أن يأتيني منها شيء. لكن حدث، عاصفة قد تغير كل المعاني بأخرى. البعض يظل يرى. فنان يختلف عن فنان لا في جسده بل بنسبة ما يرى.
من المحطات الثلاث انتهيت الى ان التعبير الخاص وان المعنى الذي اكتشفه يتفاعلان والثقافة. فالاسلوب يتغير والمعنى لن يكون غدا هو المعنى نفسه اليوم. لكن هذا كان ممكنا ادراكه قبل كل المحطات، فأنا امس وانا اليوم وأنا غداً ثلاثة أشخاص لا واحد.
الفن كامن من زمن. اليوم وقف أمامي وجهاً لوجه.
الآن مرحلة الخروج من المحطات كلها:
حين قرأت اليوت، تنقّلت بين شعره ونقده: "أن يفصل الفنان معاناته الشخصية عن الخَلق الفني، ان يتجنب الانفعالات .. " هل حقاً يقول؟ سألت نفسي. لا أستطيع أبعاد الانفعالات ولا أظنه استطاع! هل ابعدَ الانفعالات حين كتب؟ لماذا أختار هذا الموضوع أو هذه الشخصية لا سواهما وكيف كتب "مقتلة في الكاتدرائية" و كيف كتب "الرجال الجوف"؟ لا أوافقه إن كل ذات الفنان للفن .. ما دمت لا ارتضي ذلك، فبعض من الرومانس ما يزال عالقاً بي وهو يعطي الكلام مذاقاً. هو لا يفارق الشعر. تجربةٌ مني وليست اكتشافا. لست مسؤولاً عما يقوله غيري حتى لو كانوا اساتذتي.
ثم عرفت بارت وشتراوس وعرفت إن النسق والنظام يمثلان الجمال الرمزي فالفن لا هو علم ولا هو أسطورة. ابقَ واقعياً، قلت لنفسي! ما قرأته ليس مقنعاً وحاجتي ما تزال للانفعال والواقع.
عبرت التجريد وعبرت الشكلية، تجاوزت الآنية والميتافيزيقية وأبقيت مكوناتهما مرجع تهذيب. حتى الآن ما ابتعدوا عن الميتافيزيقية. وانا اجد حقيقتي وحقيقة الاشباح في الواقعية. نسغها لا يفارق الاشعار بينما المعنى بكل عافيته في مرتع خصب من جمال الصياغات.
أدركت الآن إن العمل الفني نظام فرعي في نظام ثقافي أعم وأسمى. فرحت اقرأ سياسة وتاريخ وجغرافية وعقائد. لكن العمل الأدبي لغوي. فعليك بسلامة، بحيوية، بجمال صياغة اللغة التي تكتب. هل حققت كل هذا ؟ حققت بعضاً منه. تمكنت حيناً ولم أتمكن حيناً. لكن الشخصية الواقعية التي اخصبتها مدارس اخرى لملمت ما ينفع. بقي أمام من اخاطبه، فعليَّ أن استكمل ما يحسن الخطاب. لابد من ثقافة جمالية كي لا يكون الفن وثيقة متقنة ولكي يصغي ويرى بمتعة جديدة عليه...

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0