فساد...
عين نيوز


د. لاهاي عبد الحسين
بدا الدكتور حسن الياسري رئيس هيئة النزاهة السابق ملتاعاً ومتحرقاً للحديث عن همومه والعقبات التي وقفت بطريقه لمعالجة ملفات الفساد في الورشة التحاورية التي أقامتها مؤسسة المدى لمناسبة صدور كتابه الموسوم "أطروحات عملية لمكافحة الفساد" في الخامس عشر من أيلول الجاري. بيد أنّ السيد الياسري الحاصل على شهادة الدكتوراه في مجال علم القانون والمستقل سياسياً حسب سيرته الذاتية مثله مثل كثير من المسؤولين العراقيين يستكثـرون على وسائل الإعلام والإعلاميين وعدد كبير من المختصين في مختلف المجالات الأكاديمية والاقتصادية والسياسية أنْ يكون لهم رأي سديد في تعقب الفساد والطرْق على رؤوس المتورطين فيه.
فكان أنْ شنّ هجوماً قاطعاً وشاملاً على كل هؤلاء مستشهداً بما جاء بكتابه "أطروحات ..."، والدليل الذي حمله بيده وأسماه "رؤية" في محاربة الفساد. وإستشهد السيد الياسري بـ "رؤيته" على أنّها دليل إرشادي يتضمن آليات عملية لمحاربة الفساد. وأختتم حديثه بالتأكيد على ضرورة توفر "الإرادة" ليس بصيغة "النية"، وإنّما بصيغة منظومة قانونية لمحاربة الفساد مؤكداً أنّ هذه المنظومة لن يعدها مجلس النواب الحالي ببساطة شديدة لأنّه غير قادر على ذلك. وفات السيد الياسري أنّ هيئة النزاهة ليست مجرد هيئة تحقيقية كما وصفها وإنّما جهة تنفيذية مهمة يفترض أنْ تكون هي وليس غيرها من يطور مشروعات قوانين متكاملة ترفع إلى مجلس رئاسة الوزراء لتقدم من خلاله إلى مجلس النواب للموافقة على تشريعها. هذا هو التسلسل الطبيعي لتطوير القوانين وتشريعها والا ما هو المبرر من تأسيس هيئات مستقلة يقودها مختصون بالقانون يحظون فيها بدرجة وزير من حيث المكانة والإمتيازات!. ونفى الياسري بشدة أنْ يكون الفساد في العراق مالي وإداري واصفاً من يعتقد بذلك أنّه على خطأ. وخلص إلى القول إنّ الفساد سياسي واجتماعي دون التنبه إلى إنّ المالي والإداري جزء مما هو سياسي واجتماعي أصلاً. وعندما تطرق إلى عدد من النقاط التي تضمنها دليله أكد على "تقوية الأجهزة الرقابية ليس إعلامياً وإنّما مادياً ..."، لدعم الهيئة، إلخ. وبشر الياسري الحاضرين في أنّ دور هيئات النزاهة في العالم بحسب منظمة الشفافية الدولية لا يستهدف التخلص منه وإنّما تقليله والحد من غلوائه. الجيد في اللقاء أنه تلقى ملاحظات نقدية دقيقة بشأن التماهي في محاربة الفساد وبخاصة على مستوى إستهداف الرؤوس الكبيرة في النظام السياسي القائم حيث يعاقب صغار الموظفين فيما يترك كبارهم والمؤسسين له أحرار طلقاء بلا حساب.
لم يختلف منطق و"فلسفة" السيد رئيس هيئة النزاهة السابق عن منطق كثير من نظرائه المشتغلين في مختلف مؤسسات الدولة، اليوم. فهم وحدهم من يمتلكون الحقيقة ويلمون بأبعادها. وهم وحدهم من يمتلكون مفاتيح الحل. ويتحقق الحل بنظرهم من خلال المطالبة بمزيد من الأجهزة الأمنية والقانونية والتنفيذية التي تقع تحت أمرتهم مباشرة. لا يخفى على أحد أنّ مطالبات من هذا النوع تفتح باباً على شكل آخر من أشكال الفساد. فالعمل على تأسيس هيئة تتمتع بقوى أمنية وعسكرية وقضائية مستقلة يعني الدعوة لتضخيم مؤسسات الدولة وتثخينها في الوقت الذي يتطلب فيه العمل لمعالجة أمراضها وتخليصها من فائض موظفيها والمحسوبين عليها من خلال عملية إعادة تنظيم. فائض من الموظفين لا يجد كثير منهم ما يقومون به مما يؤدي بهم إلى ممارسة الفساد بصيغ متنوعة منها كثرة في الغيابات وطلب الإجازات الزمنية وغير الزمنية وإنْ لم يكن فالقيل والقال والوشايات وما إليها مما تحفل به كل بيئات العمل الفاشلة وغير المنتجة في العراق، اليوم. وهو يعني أيضاً أنْ تتمتع الهيئة بقوى توفر لها إستقلالية تعفيها من المراقبة والإطلاع على مستوى أدائها علماً بأنّها هي نفسها يفترض ألا تكون بمعزل عن المراقبة والمتابعة والإشراف من قبل هيئات مستقلة تعمل بطريقة فعالة دون الحاجة لتأسيس وحدات وأقسام وشعب عمل تتبعها هيكليات إدارية تتسبب بلا شك في صنع الكثير من الإشكالات المستحدثة على المستوى الإداري.
وذكر السيد رئيس الهيئة السابق أيضاً في معرض تقديمه لأطروحاته لمكافحة الفساد أنّه ناشد المسؤولين ألا يعينوا في الدولة من يتسم بطريقة تفكير تعتبر أنّ "أخذ المال العام حلال". وقال مؤكداً أنّه تلقى إستجابات مشجعة من بعض رجال الدين ممن أفتوا بحرمة "الحلّية"، أي شرعنة نهب المال العام وفقاً للمنظومة الفقهية لشاغل الوظيفة التي ترى أنّ الدولة لا تملك شيئاً وإنّما الشعب هو المالك الحقيقي وعليه فمن حقهم التلاعب بما يردها من موارد وأموال. ووصف الياسري محاولته هذه لوقف إستحواذ "الهيئات الاقتصادية" التابعة للأحزاب الحاكمة على أنّها واحدة من أهم محاولاته للحد من الفساد. والسؤال منذ متى كانت المنظومة القيمية للأشخاص منطلقاً للعلاج! هل يعمل موظفوا الدولة في العراق بحسب منظومة قيمية تتبع نسق إعتقاداتهم الدينية والمذهبية أمْ أنّ عليهم السير وفق منظومة قانونية وضعية تطبق بعناية وبلا اجتهادات شخصية أو عقائدية!. القيم الاجتماعية دينية أو غير دينية لا تتعدى أنْ تكون مبادئ عامة مجردة للسلوك يشعر تجاهها الأفراد بقوة المشاعر وتوفر لهم غطاءاً أدبياً يعتمدون عليه. الا إنّ الأفراد معروفون على وجه العموم بسرعة الإستعداد لتجاوز قيمهم ومخالفتها عندما لا يجدونها منسجمة مع مصالحهم الفردية والجماعاتية. القيم والإعتقادات لا تزيد على أنْ تكون أفكاراً حسنة مستحبة ومجردة يستخدمها الأفراد لتدعيم معنوياتهم يستخدمونها كيفما إتفق. لا حساب على القيم الاجتماعية ولا ضابط غير الضمير والوعي والضبط الداخلي للإنسان وهذه أفكار مفرطة بالتجريد وقابلة للتلاعب بها من قبلهم بإستثناء قلة قليلة من الأشخاص الذين يحتكمون لمقاييس يصعب تعميمها على الأعم الأغلب من الناس. ثمّ منذ متى يستعين المتخصصون في علم القانون بالقيم الاجتماعية ويعولون عليها لوقف الفساد بإعتباره سلوكاً إجرامياً كما تتفق على ذلك اللوائح الدولية والوطنية على حد سواء. لم تعد القيم الاجتماعية لتستخدم اليوم حتى على صعيد الدراسات العلمية المتخصصة في مجال علم الاجتماع لصعوبة قياسها والتأكد من مصداقيتها من حيث أنّ الأفراد في الغالب يقولون ما لا يفعلون بقدر تعلق الأمر بمصالحهم وأغراضهم المادية المباشرة. الفساد لا يكافح بإستنهاض القيم ومحاولة تطوير الأعراف الراسخة وبخاصة على مستوى العمل في مؤسسات الدولة. يكافح الفساد من خلال إحكام التنسيق بين مؤسسات الدولة وضبط عملها وإجبار المشتغلين فيها على التسليم في أنّهم منتدبون للعمل وليسوا مالكين له.
تعرّف منظمة الشفافية الدولية الفساد على أنّه سوء إستخدام السلطة لتحقيق مكاسب فردية وهو على مستويين: الكبير، ويمارس على مستوى كبار موظفي الدولة، والصغير ويمارس على مستوى صغار الموظفين. وهناك الفساد السياسي ويقع ضمنه الفساد المالي والإداري والذي يعني التلاعب بالسياسات وإضفاء التفسيرات وإيجاد المبررات للتصرف بالمال العام لدعم السلطة والمكانة الفردية للأشخاص. يدافع كثير من المسؤولين اليوم عن تقاضيهم رواتب ومخصصات عالية بحجة أنّهم ينفقونها على المحتاجين واليتامى وشرائح متضررة من هذا النوع. السؤال أي شرائح! هذه الشرائح اذا ما وجدت فعلاً فهي لا تتجاوز مجموعات محدودة من الأشخاص ممن يعملون تحت راية هذا الطرف أو ذاك. الدولة التي تحترم نفسها تمتلك الشجاعة لتسن قوانين تشمل الجميع بلا إستثناء وتتخلص من الملفات الخاصة والقوائم السرية للمستفيدين منها. أما من يقوم بوضع مشروعات هذه القوانين فهي الجهات التنفيذية المعنية بالأمر. ترتبط عملية مكافحة الفساد بكثير من العوامل وسيكون تبسيطاً القول إنّها ترتبط بعامل دون آخر أو أنْ تعمم لتوضع تحت عنوان واسع جامع شامل مثل السياسي والاجتماعي. سيكون على هيئة النزاهة المطالبة بإعتماد عدد محدود من المشتغلين الكفوئين ممن لا يقعون بسهولة ضحية الضغوط التي تمارس عليهم أو الإغراءات التي تقدم إليهم وهذه قضية تتطلب إعادة النظر بمفهوم الفساد إبتداءً. من بين أشمل التعريفات للفساد أنّه يبدأ بمنظمومة سياسية لا تحترم مبدأ وضع الشخص المناسب بالمكان المناسب بسبب ولاءات دينية ومذهبية وعرقية وعشائرية معروفة. فأمثال هؤلاء ضعفاء بطبيعتهم يخشون ممن جاء بهم ليذكرهم بفضله ويطلب منهم تنازلات وتواطئات بالمقابل. يستشري الفساد عندما يُغض النظر عن نوعية العمل ويُخلط بين التشجيع البريئ والأداء المتوقع بحسب مقاييس صارمة ومحددة وليس مجرد قيم هلامية تذهب ذات اليمين وذات الشمال. أما القانون فلا يستبدل كل يوم ولكنّه يكيّف لمواجهة ما يظهر من مشكلات وجرائم مستجدة من قبيل الجرائم الألكترونية والنشر الألكتروني والتوقيع الألكتروني وغيرها التي أشار إليها السيد الياسري. القضية ليست قضية أنْ يتمسك رجال القضاء بالسنهوري وغيره من أعلام الفكر القانوني فالأعلام يبقون مصدراً مهماً للتشريع والقانون شريطة أنْ تناقش أعمالهم فتدعّم وتكيّف أو تفنّد من قبل اللاحقين لهم وليس بالتهجم عليهم فقط.
يذكر إنّ العراق حصل على درجة 16% في مدى إستشراء الفساد فيه متقدماً بذلك على كل من ليبيا وأنغولا وجنوب السودان وأفغانستان وكوريا الشمالية والصومال في مؤشر إجمالي للسنوات من 2012-2015. أما على مستوى الأعلى والأوطأ من سلم الدرجات فكانت درجة 91% من نصيب الدنمارك بتخلصها من الفساد فيما حصلت الصومال على 8% وهي الأوطأ في العالم بحسب منظمة الشفافية الدولية.
ما هو رد فعلك؟






