رواتب كردستان.. صراع النفط والدستور

لا تزال أزمة الرواتب في إقليم كردستان العراق تُلقي بظلالها الثقيلة على أكثر من مليون موظف ينتظرون شهرياً وصول مستحقاتهم

 0
رواتب كردستان.. صراع النفط والدستور

بقلم: محمد النصراوي

لا تزال أزمة الرواتب في إقليم كردستان العراق تُلقي بظلالها الثقيلة على أكثر من مليون موظف ينتظرون شهرياً وصول مستحقاتهم في مواعيد غير منتظمة، وسط حالة من الترقب والتوتر العام. وبينما تُطرح تفسيرات متباينة لتأخر الرواتب، فإن فهم الأسباب الحقيقية يتطلب النظر إلى عمق الأزمة، لا إلى سطحها المالي فقط.

في جوهر المشكلة، تقف الخلافات السياسية المستمرة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة الإقليم في أربيل، وهي خلافاتٌ متجذرة منذ سنوات طويلة، تتعلق بالثقة المتآكلة بين الطرفين، إشكالات السيادة، تقاسم الموارد، وتفسير مواد الدستور. كل ذلك ينعكس على ملفات يومية تمس حياة المواطنين، وأبرزها ملف الرواتب.

نزاع الموارد النفطية

أحد أهم أسباب التأخير يعود إلى النزاع المزمن حول إدارة الموارد النفطية. فبينما ترى بغداد أن الإقليم لا يحق له تصدير النفط بشكل منفرد دون العودة إلى الحكومة الاتحادية، تؤكد أربيل على حقها في إدارة مواردها، مستندة إلى ما تعتبره "خصوصية دستورية لأربيل".

وقد انعكس هذا الخلاف على الالتزام المالي، إذ تطالب بغداد بتسليم كامل إيرادات النفط وغير النفط من قبل الإقليم كشرط لتحويل حصته من الموازنة الاتحادية، في حين ترد أربيل بأن بغداد تماطل في تحويل الأموال حتى عند الالتزام بجزء من الاتفاقات. وهكذا، تبقى العلاقة المالية بين الطرفين محكومة بالشد والجذب لا بالتفاهمات المستقرة.

نسبة الحصة وتباين التقديرات

إلى جانب ذلك، هناك اتهامات متبادلة بعدم الالتزام ببنود الموازنة الاتحادية. تتحدث بغداد عن تجاوزات مالية من قبل الإقليم تفوق حصته الرسمية المقدرة بنسبة 12.67%، أي ما يعادل 13.547 تريليون دينار عراقي سنوياً، أما أربيل فتعتبر أن هذه النسبة لا تكفي لتغطية التزاماتها تجاه موظفيها، خصوصاً مع ارتفاع عدد الموظفين وكلفة الرواتب العالية نسبياً في الإقليم مقارنةً بباقي المحافظات.

اعتماد اقتصادي هش

شق الرواتب من الأزمة ليس أقل حدّة. فالإقليم يعاني من اعتماد كبير على التحويلات المالية القادمة من بغداد، مع ضعف في الإيرادات المحلية، وعدم وجود قاعدة صناعية أو إنتاجية تغني عن الاعتماد على النفط.

كما أن انخفاض أسعار النفط عالمياً في فترات متعددة، إضافة إلى الضغوط الدولية والعقوبات التي أثرت على العراق ككل، قلصت من قدرة الحكومة المركزية على الالتزام بجداول الرواتب، وخلق ضغطاً مضاعفاً على الإقليم.

غياب الشفافية والرقابة

ولا يمكن إغفال غياب الآليات المشتركة والشفافة في إدارة الملف المالي. فحتى اللحظة، لا توجد قاعدة بيانات موحدة أو نظام رقابة مالية مشترك بين بغداد وأربيل يُحدد بدقة عدد موظفي الإقليم أو آليات الصرف أو حجم الإيرادات الفعلية.

هذا الفراغ الرقابي فاقم من حجم الاتهامات وأضعف ثقة الطرفين ببعضهما البعض، في ظل تبادل الاتهامات بالتلاعب بالأرقام والبيانات.

الأمن والسياسة في قلب الأزمة

تضاف إلى هذه الأسباب الظروف الأمنية التي مر بها العراق خلال العقد الأخير، من اجتياح تنظيم داعش لمدن واسعة إلى التوترات الإقليمية المحيطة وانعكاساتها على الاقتصاد العراقي. وقد ساهمت هذه العوامل في زيادة الإنفاق الأمني، وتوسيع الفجوة بين المركز والإقليم، خصوصاً في ظل استمرار الجدل حول تمويل قوات البيشمركة، التي تطالب أربيل بإدراج رواتبها ضمن الموازنة الاتحادية، بينما تتحفظ بغداد على ذلك بدعوى غياب السيطرة الإدارية.

أزمة مزمنة لا إدارية

إن تأخر الرواتب في كردستان العراق لا يمكن حصره في مسألة إدارية أو مالية عابرة، بل هو نتيجة تراكمات سياسية ودستورية واقتصادية لم يُتعامل معها بجدية على مدى سنوات.

فالمشكلة لا تكمن في تحويل مبلغ هنا أو هناك، بل في غياب الاتفاق النهائي على قواعد الشراكة بين المركز والإقليم، ما يجعل أي أزمة مالية قابلة لأن تتحول إلى أزمة سياسية واجتماعية في أي لحظة.

الختام: المواطن أولاً

وما لم يُفتح حوار وطني صريح وجاد يعالج جوهر الخلاف، فإن أزمة الرواتب ستبقى تتكرر، وسيظل المواطن البسيط هو من يدفع الثمن: مرة في تأخير الراتب، ومرة في تأجيل الأمل.

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0