تارةً أُخرى .. الفساد في الحكومة الرشيدة
عين نيوز


ناصر الحجاج
مما لا شك فيه أن العراق هو جمهورية الإفساد بامتياز، ولأجل هذا قرر مجلس الوزراء إنشاء مجلس أعلى للفساد، بالرغم من أن قراره هذا ينافي حكم الإسلام في "المفسدين" ويتعارض مع الدستور العراقي الذي ينصّ في المادة الثانية على أنه "لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام"، وقد افتُتح نص الأمر الديواني (رقم 70) الصادر من مجلس الوزراء بشأن تشكيل المجلس الأعلى لمحاربة الفساد بالآية القرآنية " وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"، مقرّا في أبعاده السيكولوجية بأن الرؤوس الكبيرة للفساد في العراق، تسير على منهج "قارون" الذي جمع الكثير من الأموال فخسف الله "به وبداره الأرض".
يشير البيان إلى حرص الإسلام السياسي على "تطبيق الحكم الرشيد" الذي يوازي في أدبيات الأصوليات الإسلامية "الخلافة الراشدة" التي أرادت داعش تحقيقها في "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (خلافة على منهاج النبوة)، ولكن التحليل السيكولوجي لصيغة البيان (الغامض) يكشف عن نية الطبقة الحاكمة بالإسلام السياسي الهروب من الدستور، ومن الثوابت الإسلامية التي تضع جريمة الإفساد في قمة هرم الجرائم التي تُسقط حرمة مرتكبيها أيا كانت مكانتهم الدينية أو السياسية.
أول الإشارات الدالة على أن تشكيل المجلس الأعلى للفساد هو محاولة للهروب من الملاحقة القانونية، هو الاعتماد على آية قرآنية ليست من آيات الأحكام (كما يعرف ذلك علماء الشريعة الإسلامية) فقد وردت الآية ضمن حوار اجتماعي جاء بصيغة الراوي الحكائية، بين قارون وقومه وعلى الشكل التالي: " إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". فاختيار هذه الآية دون غيرها من عشرات الآيات المبيّنة لحكم الشريعة الإسلامية في "المفسدين في الأرض"، يكشف عن مداهنة الإسلام السياسي وانتقائيته في الأخذ ببعض الكتاب وترك بعضه الآخر، لأن القرآن الكريم يكاد يختصر وجود الإنسان في الأرض في معادلة "الإفساد والإصلاح"، فمنذ سفر التكوين وحوار الله مع ملائكته المقربين، كان التساؤل الإنكاري الأول حول إرادة الله خلق آدم أبي البشر "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ!" لأن الملائكة يعرفون مسبقا أنه لا تسقط حرمة المقدس المتمثل في النفس البشرية، إلا بارتكاب إحدى جريمتين هما "القتل، والفساد"، ولهذا جاء استقراؤهم الناقص باعتراض على خلق ما من طبيعته سفك الدماء والإفساد، وهما جريمتان تبيحان قتل مرتكبيهما، لأن الشريعة الإسلامية (الإبراهيمية) قصَرَت عقوبة الإعدام على مرتكبي جريمتي "القتل" و"الإفساد" واعتبرت أي قتل دونهما قتلا للناس جميعا: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا].
ومع ذلك ترك القرآن قرار عقوبة القاتل بيد وليّ الدم، في ثلاثة خيارات مرنة هي: "العفو"، أو "الدية" أو القصاص "بالقتل"، فيما كان التشديد والتغليظ في عقوبة "الإفساد" في قوله تعالى: " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ".
كان حريّا ببيان رئاسة الوزراء أن يستخدم لغة رادعة أكثر حزما تكشف عن نيته محاربة المفسدين، وأن يوظف آيات الأحكام المنصوص عليها في عقوبة الإفساد في الأرض، لكن البيان جاء خائفاً موارباً مداهناً، ربما لأنه (كما في أدبيان الإسلام السياسي) ينتظر "السنن الكونية" التي ستخسف الأرض بقوارين الفساد العراقي بيد الله، أو بيد الشعب العراقي.
ما هو رد فعلك؟






