إضراب المعلمين...
عين نيوز


د. لاهاي عبد الحسين
أثار الإضراب الذي دعت نقابة المعلمين العراقيين ونفذته يومي 17-18 شباط الجاري وهو بدء الدوام الرسمي لطلبة المدارس بعد إنتهاء العطلة الربيعية للعام الدراسي الحالي عدداً من القضايا والملاحظات التي تراوحت بين مواقف نقدية حادة وغاضبة أو دعم متعاطف وتسليم بمطالب المضربين.
الحق فإنّ الدعوة للإضراب بحد ذاتها ومن قبل النقابة المهنية المعنية، نقابة المعلمين العراقيين، والدعم الذي حصلت عليه بتواقيع رؤساء عدد من النقابات المهنية في العراق كالعمال والأطباء والصحافيين والمهندسين الزراعيين والجيولوجيين والبيطريين وذوي المهن الصحية سجلت خطوة صحيحة بطريق الممارسة الديموقراطية الصحيحة. فمن حق الهيئة الإدارية لنقابة مهنية بل ومن واجبها أنْ تدعو لإضراب عام لتقديم مطالب منتسبيها على نطاق واسع. تأتي هذه الدعوة في محاولة لإشراك كل الجماعات المهتمة في المجتمع والتي تشتمل على جمهور أولياء أمور الطلبة والمسؤولين عنهم والمستفيدين منهم من المشتغلين في مختلف مجالات العمل وتخصصاته. كما كان للإضراب الذي دعت نقابة المعلمين العراقيين إليه أنْ قدم نموذجاً عملياً للطريقة التي يفترض أنْ تتحرك بموجبها النقابات المهنية الأخرى لعرض معاناة منتسبيها والمسؤولين عن إدارة العمل فيها. فقد قدمت النقابة بهذه الممارسة الديموقراطية صورة لدورها القيادي بتوجيه وتمثيل جمهور منتسبيها وهو الأمر الذي افتقرت إليه حركات شعبية أخرى مثل تظاهرات مواطني المحافظات المتضررة من سوء الخدمات والبطالة وتباطؤ إعادة الإعمار والبناء في محافظات البصرة وذي قار وميسان والنجف وكربلاء والقادسية والمثنى والموصل وكركوك وغيرها. كما كان للدعم الذي حظيت به من قبل رؤساء النقابات المهنية الأخرى بادرة مبشرة لتنظيم نشاطات مماثلة للمطالبة بتحسين ظروف العمل للأطباء وذوي المهن الصحية ممن يعملون في ظل ظروف ليس لديهم فيها ما يحسدون عليه.
من جانب آخر، حظي الإضراب بإهتمام رسمي واسع وبخاصة بعد صدور تصريح مرتبك للمتحدث بإسم وزارة التربية نسب إلى السيد فراس محمد السبت الموافق 16 شباط 2019 عبر فيه عن عدم مسؤولية الوزارة عن الإضراب وأنّه، أي الإضراب، بين النقابة والحكومة. فقد حضر عدد من أعضاء مجلس النواب إلى مقر النقابة وأقام وزير التربية وكالة د. علاء عبد الصاحب مؤتمراً صحافياً نقل فيه إهتمام السيد رئيس مجلس الوزراء بموضوع الإضراب والرغبة بمعالجة القضايا المطروحة فيه.
وتقدم ورقة مطالب النقابة التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي قائمة بالقضايا التي دعت لتنظيم الإضراب وتنفيذه. وهي قضايا كثيرة مهمة لا تخص جمهور المعلمين بمختلف مراتبهم وبخاصة التعليم الإبتدائي والثانوي كأفراد وإنّما جمهور المستفيدين منهم وهم الطلبة ممن تقدر أعدادهم بربع سكان المجتمع العراقي. بيد أنّ ما يعاب على ورقة المطالب هذه أنْ تستهل بالقول إنّها تنطلق من أهداف النقابة وقرارات المجلس المركزي لها المنعقد في 25 كانون الأول من العام الماضي وخطبة المرجعية الدينية في الثامن من شباط من العام الحالي. كان يمكن لبيان مطالب النقابة أنْ يكون قوياً وحكيماً ومنسجماً مع أحد أهم ما جاء فيه والذي تمثل في النقطة الأولى التي نصت على "إخراج وزارة التربية من المحاصصة السياسية"، لو أنّه لم يتورط بالإستشهاد بخطبة المرجعية الدينية. فقد جاء على لسان السيد أحمد الصافي في تلك الخطبة بالذات قوله إنّه يود تناول "المسألة التربوية بعنوانها العام". يعني هذا أنّه نأى بالمرجعية لتكون صوتاً لأية جهة معينة على وجه التخصيص وأنّه قدم للخطبة بالسؤال: كيف لنا أنْ نصوغ مجتمعاً جيداً! وأختتم بالقول: الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم". لا تضع المرجعية الدينية نفسها أداة بيد جهة ولا تريد إستشهاداً أو إطراءاً من طرف ولكنّها تبث رسالتها ليتعظ منها الجميع بلا إستثناء وهي في غنى من أنْ تكون سلاحاً بيد أحد.
فيما عدا ذلك تضمنت ورقة المطالب عدداً من القضايا المهمة من بينها الدعوة لبناء ما لا يقل عن 25 ألف مدرسة خلال أربع سنوات وإنجاز الهياكل المدرسية غير المنجزة بروحية ثورية فورية لا تصطدم بعقبات قضائية وبيروقراطية معطِلة وفتح ملفات المستلزمات المدرسية لتوفير مقاعد دراسية للطلبة وتزويد المختبرات بما يلزم من المواد وتوفير وسائل الإيضاح. هذا إلى جانب الإهتمام بالرياضة المدرسية وإنجاز الملاعب الخاصة بالمدارس وإعادة توزيع الصلاحيات لكي لا تبقى حصراً بيد الوزير ووكلائه والمدراء العامين وإنّما إعطاء مدراء المدارس حيزاً واسعاً في هذا المجال لما لهم من صلة مباشرة مع واقع الحال ومتطلباته الميدانية.
لم تحتل مسألة رفع الرواتب وزناً كبيراً بالمقارنة إلى القضايا الأخرى التي عرضنا لها من خلال ورقة المطالب كما أشيع في وسائل التواصل الاجتماعي وتسببت بالكثير من التعليقات الساخرة والمزدرية وحتى الجارحة. فقد أشير إلى ضرورة إستيعاب خريجي كليات التربية والمحاضرين بأجر يومي ضمن ملاك الوزارة. وهذه مسألة مهمة لأنّها تخص أعداداً كبيرة من الخريجين المحبطين نتيجة عدم توفر مجالات للعمل في الوقت الذي تشكو مدارس الأقضية والنواحي والمناطق الريفية البعيدة وحتى مراكز المدن من قلة الكادر التعليمي. كما طالبت الورقة بتخليص دوائر التربية في المحافظات من هيمنة مجالس المحافظات وإعادة ربطها بالمركز لتعمل على المستوى الإتحادي بسبب تدخلات هذه المجالس مما تسبب بالكثير من حالات الفساد الإداري والمالي من خلال فرض الأشخاص الذين يرغبون بتعيينهم أو شمولهم بإحتمال فرصة تعيين وما يشبه هذا. وطالبت الورقة بالعودة إلى نظام التغذية المدرسية وحتى تقديم إعانات مالية للطلبة لتشجيعهم على الدوام والإلتزام فيه كجزء من استراتيجية مكافحة الأمية العائدة والتسرب من الدوام. وطالبت أيضاً بالإهتمام بتدريب المعلمين والمدرسين وتطوير إمكاناتهم وبخاصة في ضوء فرض مناهج جديدة لم يسبق للغالبية العظمى منهم التعامل معها. وأشارت الورقة إلى ملفات الفساد في طبع الكتب المدرسية والدعوة لدعم المطابع العراقية، الأهلية والحكومية منها على السواء. وسمّت ملف تحويل دار النهرين لطباعة الكتب إلى شركة مساهمة بعد أنْ كانت ملكاً صرفاً لوزارة التربية!
كل هذه مطالب مشروعة ومهمة وتعبر عن موقف مسؤول إلا إنّ حشر موضوع "صندوق التربية" في النقطة رقم (11) التابع لوزارة التربية والمطالبة بربطه بالنقابة لغرض إدارته و"الحيلولة دون إستغلاله لغير المصالح التي أنشئ لأجلها وبناء مستشفيات تخدم المعلم ..."، يبدو وكأنّه يعود القهقرى إلى نظام الإقطاعيات. نظام يهدف إلى تحويل هذا القطاع الحيوي والمهم والذي يحظى بدعم شعبي واجتماعي واسع إلى ضيعة لتأسيس دولة داخل دولة. مطلب يعبر عن نزعة سلطوية تبحث عن موطئ قدم ضمن نظام الإقطاعيات المحدث هذا في العراق، اليوم.
من جانب آخر، لم تتطرق الورقة إلى مسألة العودة إلى نظام الخدمة في المناطق النائية كجزء من مستلزمات التثبيت في الوظيفة الحكومية على ملاك وزارة التربية المصمم لمعالجة النقص في توزيع الكوادر التعليمية إضافة إلى تطوير خبرة المعلم والمدرس. وهناك مسألة المكتبات المدرسية وهي من المستلزمات المادية المهمة جداً لتطوير ملكة القراءة والبحث والتقصي لدى الطلبة. مما لا شك فيه أنّ الإفتقار إلى المكتبة المدرسية منذ عقود من الزمن كان هو المسؤول عن إستشراء النزعة للإكتفاء بالكتاب المنهجي المقرر ومن ثم الإعتماد على الملازم بل والمطالبة من قبل الطلبة بتلخيصات أو التقليل من المادة العلمية لأغراض الإمتحان. بدأت هذه السلوكيات بالإنتشار منذ أنْ أصاب المكتبة المدرسية ما أصابها نتيجة الإهمال الذي ارتبط بظواهر أخرى لا تقل خطورة وهي التي تتمثل بالحاجة إلى إستخدام الحيز المكاني المحدد لها كقاعة دراسية بسبب الإزدحام وعدم كفاية المباني المدرسية لإستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة. وهناك مسألة السفرات العلمية والترفيهية التي لم تجد مكاناً لها في الورقة وهذه لا تقل أهمية عن غالبية المطالب المشروعة التي وردت بالورقة. فكثير من الطلبة لا يحظون بظروف تمكنهم من التمتع بأوقات الفراغ والعطل الرسمية مما يضع المسؤولية على عاتق المدرسة وإدارتها للتعويض ومعالجة النقص الحاصل على هذا الصعيد.
ليس كثيراً على المعلمين العراقيين ونقابتهم المطالبة بتحسين ظروف العمل. فهؤلاء يمثلون الطبقة الكادحة الأكبر حجماً بعد المؤسسة العسكرية والأمنية في بلد عانى من الإرهاب وإنعدام الإستقرار لعقود من الزمن. ويتوقع أنْ تكون هذه الطبقة هي الطبقة الأوسع ما أنْ تستمر الأوضاع الأمنية بتعميق أسباب الأمان والإستقرار مما يتطلب رعايتها لما تتحمله من مسؤوليات عظيمة على مستوى التأسيس لمجتمع منتج وسليم. أما المشاكل وأسباب القصور كما في قصر ساعات الدوام التي لا تزيد على أربع ساعات في اليوم الواحد للمعلم وتلكؤ الطلبة عن ضبط المواد التعليمية المقررة لهم وشيوع ظاهرة التعليم الخصوصي فهي جزء من الثورة لتطوير المؤسسة التعليمية في العراق. سيضطر المعلمون والمدرسون وحتى التدريسيين في الجامعات العراقية إلى البقاء لفترات أطول في مؤسساتهم عندما تتوفر ظروف العمل الطبيعية كالمكاتب الخاصة المزودة بمستلزمات التواصل والإتصال بدل المغادرة ليكملوا واجباتهم في منازلهم لليوم التالي. لا تنتهي مهام المعلم ومن هم بشاكلته ضمن ساعات الدوام التي ينظر فيها إليه بل يحمل غالبيتهم عملهم ليقتطعوا من فترات راحتهم وتفرغهم لشؤونهم العائلية. ويكمن السبب في هذه الظاهرة بعدم توفر مباني مناسبة مجهزة بمستلزمات مساعدة مناسبة وليس لتقاعس منهم وإستهتار مجرد كما يتصور البعض. وهناك دور المفتش التربوي والمرشد التربوي المعطل أيضاً مما يساهم بإشاعة هذه الظواهر محل النقد والإنتقاد. يذكر أنّ كل هذه الظواهر ترتبط بالخلل في المنظومة العامة للعمل وإدارته في العراق. سيبقى التعليم قطاعاً مهماً يتطلب الإهتمام به أيما إهتمام وللعراق أسوة حسنة بما تفعله الدول المتقدمة التي تولي المعلم اهتماماً كبيراً لتمكنه من الإبداع. ولن يحصل هذا خارج مقاسات توفير المستلزمات المادية والتنظيمية اللازمة التي ورد ذكرها في ورقة مطالب النقابة إلى جانب الملاحظات المسجلة بشأنها وبخاصة العودة إلى قانون الخدمة في المناطق الريفية الذي كان معمولاً به من قبل أسوة بالأطباء والمشتغلين في مجال الخدمات الصحية كالصيادلة والتمريضيين.
ما هو رد فعلك؟






