أمريكا لا تسمح لنا أن نكون

لا يكفي أن تكون ضعيفًا كي تُستهدف، ولا يكفي أن تكون بريئًا كي تُغفر خطاياك

 0
أمريكا لا تسمح لنا أن نكون

بقلم: محمد النصراوي

في هذا العالم، لا يكفي أن تكون ضعيفًا كي تُستهدف، ولا يكفي أن تكون بريئًا كي تُغفر خطاياك. إن لم تكن في صف المهيمن، فأنت العدو، حتى لو كنتَ طفلًا ينقب في الرمل عن حجارة.

المنظومة لا تغفر لغير المنضبط. أمريكا لا تريدك حيًّا إلا إذا كنتَ ميتًا من الداخل. هي لا تكرهك لأنك تملك سلاحًا، بل لأنها تعرف أنك تحمل شيئًا لا تصنعه مصانعها: الإرادة.

هي لا تخشى عددك، بل تخشى معنى وجودك، لأنك لم تُخلق في غرف الاجتماعات، ولم تُبنَ روحك في ورشة تصنيع النُخَب، بل نبتت من الأرض، من ترابها، من الحكايات القديمة التي لا تليق بها الترجمة.

أمريكا لا تريدك قويًّا، ولا تريدك حتى مهزومًا، بل مُفرغًا. تريدك أن تشكّل دولةً بلا ذاكرة، صوتًا بلا موقف. تريدك أن تعتذر عن انتصارك، أن تخجل من دموعك، وأن تعتقد أن البكاء ضعف، وأن المقاومة جنون.

هي لا تحكم بالسلاح فقط، بل تحكم بالمفردات. هي التي تعرّف لك "الإرهاب"، وتُحدّد لك معنى "الحرية"، وتقرر متى يصبح القاتل صانع سلام، ومتى يتحول الضحية إلى خطر.

إن كنتَ من هذا الشرق، فهذا لا يكفي. يجب أن تعلن الطاعة، وإن أعلنت الطاعة فلن يعفوك من التفتيش. وإن تخليت عن كرامتك سيطلبون منك المزيد: أن تتنازل عن ذاكرتك، أن تغيّر اسمك، أن تشطب أسماء الشوارع، أن تبدل الأبطال وتضع صورهم على جدرانك بدلًا من صور أحبابك.

هي أمريكا، التي دخلت أوطاننا بالدبابة، ثم عادت إلينا عبر الشاشة. زرعت وكلاءها في الإعلام، في الجامعات، في الفن، وفي المناهج الدراسية. جعلت القاتل نجمًا، والضحية تهمة، والمقاومة ملفًا يجب إغلاقه.

أمريكا، التي تشعل الحروب ثم تبيعك مشروعًا للإعمار، تدمر مستشفياتك ثم تمنحك منحة صحية، تضعك في السجن ثم ترسل لك محاميًا لتدافع عن نفسك ضمن قوانينها هي.

تريدك أن تنسى فلسطين، أن تخفت صوتك حين تسمع اسمها، أن تعتقد أن حبها رجعية، وأن الدفاع عنها مضيعة وقت. تريدك أن تصدق أن "الواقع" أقوى من الدم، وأن "المنطق" أقوى من الحنين، وأن إسرائيل "حقيقة لا بد من قبولها".

لكننا لا ننسى. لا نُعدّ شهداءنا أرقامًا. لا نخاف من أن نقول "لا". نحن الذين، حين نجوع "نزرع"، وحين يُحاصَر الجسد "يتحرك القلب". نحفظ أغانينا القديمة، ونتغنى بأسماء قرانا التي هُجرنا منها. نكتب أسماء شهدائنا على جدران المدارس لا لنُبكي التلاميذ، بل لنذكرهم كيف تكون الحياة جديرة بأن تُعاش بكرامة.

هم يخططون لمئة عام، ونحن نُربي طفلًا يعرف اسمه جيدًا، ويعرف من عدوه، ويعرف أن الكلمة قد تسبق الصاروخ، وأن الدم إذا احترق من أجل قضية لا يطفئه البحر.

لهذا، لا تسأل لماذا تكرهنا أمريكا، بل اسأل لماذا نحب ما لا تستطيع أمريكا فهمه: الحب الذي لا يُشترى، العزاء الذي يتحول إلى وعد، الصوت الذي لا يخاف المنع، الدموع التي تلمع لا ضعفًا بل عهدًا.

اسأل عن الأم التي تبارك ابنها وهو يرحل، لا إلى السفر بل إلى القتال، عن الأب الذي يقسم الخبز ولا يقسم الكرامة، عن شعبٍ لا يموت لأنه لا يريد أن يعيش كما يريد له الغزاة.

في النهاية، نحن لا نكرههم لأننا نهوى الكراهية، نحن نرفضهم لأننا نعرف أنفسنا، ومن عرف نفسه لا يبيعها.

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0