حرائق متكرّرة وذاكرة مثقوبة

صرخات الأطفال، أعمدة الدخان، ولهيبٌ ابتلع الجدران والمارّة في لحظة واحدة. حريقٌ مفاجئ

 0
حرائق متكرّرة وذاكرة مثقوبة

محمد النصراوي

ليلة الكوت التي احترقت فيها المدينة والذاكرة

لم تكن تلك الليلة في الكوت كغيرها؛ صرخات الأطفال، أعمدة الدخان، ولهيبٌ ابتلع الجدران والمارّة في لحظة واحدة. حريقٌ مفاجئ اندلع في أحد المولات التجارية فقلَبَ المدينة رأساً على عقب. انتشرت الصور، تصدرت العناوين، وتحوّلت الكارثة إلى "خبر عاجل" يتكرر كل خمس دقائق.

لكن، لو أغلقتَ التلفاز الآن، وأعدتَ فتحه بعد أسبوع، فلن تجد شيئاً. لا تحقيقات، لا متابعة، ولا حتى إشارة إلى ما حدث. وكأن أرواحاً لم تُزهق، وكأن النار لم تأخذ معها أطفالاً ونساءً وذكريات.

الإعلام.. آلة نسيان لا ذاكرة وطنية

هكذا يعمل الإعلام العراقي، أو بالأدق: "آلة النسيان الرسمية". ينفجر بالغضب لساعات، ثم يخمد فجأة، مستعداً لتغطية الكارثة التالية.

لا مساءلة، لا تحقيقات معمّقة، ولا ربط بين حادثة وأخرى.

  • حريق الكوت سبقه حريق مستشفى الحسين في الناصرية،

  • وقبله حرائق الوزارات والمخازن،
    لكن لا أحد يحاول تركيب الصورة الكاملة أو طرح السؤال الأهم: لماذا تتكرر الكوارث بهذا الشكل؟

من التغطية اللحظية إلى التطبيع مع النسيان

في العراق، الإعلام لا يصنع الذاكرة بل يمسحها. والأسوأ، أن بعض وسائل الإعلام تُروّج للتطبيع مع النسيان، وكأن كل مصيبة قَدَرٌ عابر لا يحتاج أكثر من منشور على فيسبوك، وبعض الشموع، وفيديوهات حزينة تُركّب عليها موسيقى حزينة أكثر.

هذا ليس صحافةً حقيقية، بل تسويق مؤقت للوجع.
فالصحافة لا تكتفي بتوثيق الدم، بل تلاحق المسؤولين، وتكشف بنية الفساد التي تُنتج هذه الكوارث كل موسم.

شركاء في صناعة النسيان

الخطر أن بعض القنوات باتت تمارس دور "الطبطبة الإعلامية"، بدل أن تكون عيناً على الفساد.

لكن، هل الإعلام وحده مذنب؟
هل الشعب بريء من هذه الذاكرة المثقوبة؟

ذاكرة قصيرة... وألم متجدد

في كل كارثة:

  • نغضب

  • نتعاطف

  • نشارك الصور
    ثم نعود لروتين الحياة.

لا نقاطع المولات المخالفة، لا نحاسب المسؤولين، لا نضغط على النواب، لا نطالب بأي شيء. وكأننا نُعيد إنتاج الموت ببرودٍ جماعي.

إنها مأساة تُشبه الدوّامة:
نغضب، نهدأ، ننسى، ثم نغضب من جديد. ليس لأننا نمتلك ذاكرة نشطة، بل لأننا لم نُشفَ من الألم السابق.

ما نحتاجه فعلاً

لن يتغيّر شيء طالما أن:

  • الإعلام متواطئ

  • الناس صامتون

  • الضمير الجمعي نائم

نحتاج إلى:

  • إعلام لا يخاف أن يُلاحق المسؤول

  • صحافة لا تكتفي بالبكاء، بل تُصر على المساءلة والربط والاستمرار

  • شعب لا ينسى، لا يبتلع الكارثة، ولا يُطبّع مع الألم

فالحرائق لا تأتي دائماً من تماس كهربائي...
أحياناً تبدأ من تماس في الضمير.

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0