حين تُصنع الأسماء الفارغة وتُغتال العقول
في زمن يُفترض أن تكون فيه المعرفة سيدة المجالس، صارت التفاهة تُمنح مقاعد الصدارة

يوسف السعدي
في زمن يُفترض أن تكون فيه المعرفة سيدة المجالس، صارت التفاهة تُمنح مقاعد الصدارة، تُزف كالعروس على شاشات الفضائيات، وتُصفق لها الجماهير، وكأنها منجز حضاري لا يُضاهى. لم يعُد غريبًا أن نشهد أسماءً تتصدّر المشهد الإعلامي وهي لا تملك من المضمون سوى الصراخ، ومن العمق سوى قشور مبتذلة، تصنعها فرق الإنتاج الإعلامي كما تُصنع السلعة، تُغلف، وتُسوّق، وتُستهلك.
هل رأيتم مشهد "باب القصر" في مسلسل المختار؟ أولئك الذين كانت مهمتهم إثارة الضحك داخل قصور الطغاة، يقدمون الحركات البهلوانية والتعليقات السمجة، ليشغلوا بلاط السلطان عن أوجاع الناس وآهات المظلومين. اليوم عادوا، لكن بأثواب عصرية، وكاميرات HD، وتطبيقات تصعدهم في دقائق إلى قمم الترند، أما المحتوى؟ فهو خواء مقنّن.
الإشكال ليس في وجود التفاهة، فهي جزء من أي مجتمع، بل المشكلة الحقيقية تبدأ حين تتحول التفاهة إلى مشروع ممول، تُضَخ له الأموال، وتُفرَش له المنصات، ويُعاد تدويره عبر إعلام محترف الابتذال. هنا لا نتحدث عن حرية التعبير، بل عن تسطيح ممنهج للعقل الجمعي، خصوصًا في المجتمعات التي لم تتعافَ بعد من تبعات الحروب والانقسامات والجهل المركّب.
أصبح بالإمكان أن تصبح "مشهورًا" بمجرد أن تكون صاخبًا، متهتكًا، مستعدًا لخلع كل شيء: الوقار، الأخلاق، الحياء، حتى الوطنية والدين، كل ذلك في سبيل لايك أو مشهد قصير يثير ضحكًا مؤقتًا، لكنه يزرع غباءً طويل الأمد.
ما يُروّج اليوم عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل، لا يخلو من أجندة خفية، وأحيانًا تكون واضحة، تفريغ الإنسان العراقي والمسلم من قيمه، هويته، حسه النقدي، وحلمه بالتغيير. العقل المشغول بالتوافه، لا يمكنه أن ينهض، يفكر، أو يحتجّ.
في مشهد آخر من مسلسل المختار، يدخل أحد المهرجين مجلس الوالي، فيُضحك القوم بكلمات سطحية، فيما كان الناس خارج الأسوار يُذبحون ظلمًا. أليس هذا ما يحدث اليوم؟ يُقصى العاقل، ويُحتفى بالمهرّج؛ يُقمع صاحب المبدأ، ويُكرم صاحب المحتوى الرخيص.
من المسؤول؟
-
الإعلام فقط؟
-
أم الجمهور الذي ينجرف دون وعي؟
-
أم الجهات التي تضخ المال لصناعة هذه الأسماء الفارغة؟
الحقيقة أن الجميع مسؤول: الإعلام يُخضع خطه للربح، والجمهور يميل للأسهل، والسلطة قد تجد في التفاهة أداة لتخدير الشعوب.
مواجهة التفاهة ليست بالصراخ عليها، بل بإنتاج البديل: محتوى راقٍ، حقيقي، جذاب، دون أن يكون مملاً أو تقليديًا. إنها معركة وعي، لا تقل أهمية عن أي معركة سياسية أو اقتصادية، لأن ما يُغتال اليوم هو العقل، الهوية، والكرامة.
لنعد إلى باب القصر في المختار، ونتذكر دومًا أن كل مهزلة إعلامية تبدأ حين يُفتح الباب لأهل التفاهة ويُغلق في وجه أهل الموقف.
ما هو رد فعلك؟






