أرشيف الدولة السورية: ذاكرة وطن مغيّبة تبحث عن النور
في خضم التحولات التي تعيشها سوريا اليوم، يبرز أرشيف الدولة السورية بوصفه ملفًا مركزيًا لم يُفتح بعد

في خضم التحولات التي تعيشها سوريا اليوم، يبرز أرشيف الدولة السورية بوصفه ملفًا مركزيًا لم يُفتح بعد، على الرغم من أهميته القصوى في فهم آليات الحكم، وتاريخ السلطة، ومسارات التغيير السياسي والأمني التي مرت بها البلاد منذ عام 1963 وحتى اليوم.
الأرشيف المنسي.. ذاكرة وطنية بامتياز
إن أرشيف الدولة السورية ليس مجرد وثائق وأوراق رسمية، بل هو ملكية للشعب السوري، ومرآة تعكس المحطات الكبرى في تاريخ الدولة، بحلوها ومرّها. والاطلاع عليه بات ضرورة مُلحّة، ليس فقط للمؤرخين، بل لبناء دولة سورية جديدة تستند إلى الحقيقة والشفافية وتتعلم من أخطاء الماضي.
البدايات: انقلاب البعث وأسرار التسلل
تبدأ خيوط هذا الأرشيف في مساء السابع من مارس/آذار 1963، حين نفذت مجموعة من ضباط الجيش السوري انقلابًا عُرف بـ"انقلاب البعث". وتبرز الأسئلة: من هم هؤلاء الضباط؟ وما أهدافهم؟ وكيف تشكّل "مجلس قيادة الثورة"؟ ومن هم أعضاؤه بالاسم والرتبة؟
الأكثر إثارة هو تسلل خمسة ضباط كانوا قد سُرّحوا من الجيش ويعملون في وظائف مدنية في وزارة الاقتصاد ومديرية الموانئ، وهم: محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد، عبد الكريم الجندي، وأحمد المير. لم يشاركوا في الانقلاب، لكنهم سرعان ما احتلوا مواقع حساسة داخل المؤسسة العسكرية، عبر توزيع دقيق على مواقع استراتيجية حول دمشق، ما سمح لهم لاحقًا بالسيطرة على مفاصل القرار.
التمكين والتحكم: من التسلل إلى الانقلاب
أحد أبرز هؤلاء، صلاح جديد، عُيّن نائبًا ثم رئيسًا لشعبة شؤون الضباط في رئاسة الأركان، وتمكّن من تسريح 2200 ضابط من خريجي الكليات العسكرية، لتمهيد الطريق أمام مجموعة ضباط من الموالين، بينهم حافظ الأسد، الذي تسلّم لاحقًا وزارة الدفاع.
في 22 فبراير/شباط 1966، نفذ الأسد وجماعته انقلابًا داخليًا أطاح بالقيادة البعثية التاريخية، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ سوريا انتهت بهزيمة مدوّية في حرب حزيران 1967، وسقوط الجولان.
الأسئلة الكبرى: حرب 1967 والجاسوس كوهين
يطرح الأرشيف أسئلة حساسة، من بينها: هل تم تضليل القيادة السورية بشأن حشود إسرائيل؟ وهل جرى التنسيق مع الاتحاد السوفياتي لتوريط مصر؟ وما حقيقة العلاقة بين قيادات الجيش السوري والجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي كان ضيفهم الدائم في السهرات والمآدب؟
وتبقى محاضر التحقيق مع كوهين ومحاكمته وثائق بالغة الأهمية لم تُكشف بعد، إلى جانب أسباب عدم محاسبة المسؤولين عن سقوط القنيطرة، بل ترفيع حافظ الأسد من رتبة لواء إلى فريق أول رغم الهزيمة!
السلطة الأمنية... من التنكيل إلى التوريث
بعد الانقلاب، تم زج القيادات البعثية في السجن لأكثر من 24 عامًا، بينما تمت معاقبة اللواء أحمد سويداني والنقيب عدرا، اللذين كشفا شقة كوهين متلبسًا، رغم كونهما في حينه من كبار الضباط في الاستخبارات والشرطة العسكرية.
ويكشف الأرشيف هيكلية الدولة الأمنية التي بناها الأسد الأب، من حكمت الشهابي إلى علي دوبا، ومن غازي كنعان إلى رستم غزالي، وصولًا إلى رجالات الأمن السياسي والأمن العسكري الذين تحكموا في مصائر الناس لعقود.
من حافظ إلى بشار: الاستمرارية في القمع والهيمنة
يتطلب أرشيف الدولة مراجعة محاضر اجتماعات القيادة القطرية لحزب البعث منذ 1963 وحتى 2024، وكذلك محاضر مجلس الوزراء منذ حكومة صلاح البيطار الأولى إلى آخر حكومة في عهد بشار الأسد. ومن الضروري الاطلاع على كيفية تخطيط السيطرة على لبنان، وكيف أوكل حافظ الأسد هذا الملف الحساس إلى رجالات أمن مثل غازي كنعان ورستم غزالي.
السياسة والاقتصاد: من الخطط الخمسية إلى سرقة عائدات النفط
تثير الوثائق تساؤلات حول إنتاج الخطط الاقتصادية الخمسية التي لم تُحقق نجاحًا يُذكر، ومصير عائدات النفط منذ عام 1973 حتى 2024. كيف تم تحويل هذه الأموال؟ وما الحيل التي استخدمها النظام لإخفائها في حسابات سرية في أوروبا أو الجزر العذراء؟
وثائق اللقاءات السرية: من كيسنجر إلى الشرع
يوثّق الأرشيف محاضر لقاءات سرية بين حافظ وبشار الأسد مع رؤساء ووزراء خارجية أميركيين، من هنري كيسنجر إلى مادلين أولبرايت. كما يحتوي على تفاصيل المفاوضات غير المعلنة مع إسرائيل، بمشاركة شخصيات مثل موفق العلاف، فاروق الشرع، ووليد المعلم.
الأرشيف ضرورة لبناء مستقبل سوري جديد
رغم صعوبة المهمة، فإن فتح أرشيف الدولة السورية يمثل ركنًا أساسيًا في المصالحة مع الذات الوطنية، وفهم طبيعة الصراعات والانقلابات، وإنتاج القرار السياسي والعسكري في الدولة. فالدولة السورية الجديدة، رغم انشغالها بالتنمية، لا يمكن أن تبني مستقبلًا دون مساءلة الماضي.
#أرشيف_الدولة_السورية #الانقلاب_1963 #حافظ_الأسد #صلاح_جديد #إيلي_كوهين #الجولان #التاريخ_السياسي_لسوريا #حرب_1967 #ملف_لبنان #المخابرات_السورية #وثائق_بعثية
ما هو رد فعلك؟






