نافذة من موسكو..تأملات في مشروعية السلطة
عين نيوز


د. فالح الحمـراني
(1 - 2)
يتصف مفهوم مشروعية السلطة في درجة الاتفاق بين الحكام والمحكومين. وتكون السلطة مشروعة، إذا اعترف المحكومون بحق الحكام بإدارة البلاد، وعلى وجه الخصوص، كيف إنهم يقومون بذلك. ويعي الحكام والمحكومون أهمية مثل هذا الاعتراف. ويبدو للمحكومين، إذا كان الحكام غير عادلين وغير مرغوب بهم فعلى الأقل يكونوا والسلطة نفسها وما يرتبط بها من مؤسسات ومراسم، طبيعيين. والحكام ينتظرون من المحكومين أيضاً الموافقة على تحركاتهم في قمع وملاحقة المنشقين الذين لا يرغبون بالخضوع، ويمارسون المقاومة الفعلية والافتراضية.
وتكون المشروعية شرط ضروري لاستقرار وفعالية السلطة. وهي على الأغلب مفهوم سايكولوجي. حيث إن أية إحالة إلى الوثائق والبرامج والأهداف المعلنة، أو التقاليد، لا تجعل السلطة مشروعة، وحتى تصبح هذه القرائن مقنعة للأغلبية، ولو لأغلبية المحكومين. وعلى هذا النحو فإن واقع وعي المجتمع في نهاية المطاف، يحدد مدى مشروعية السلطة.
ويتمتع الفرد أو المؤسسة بسلطة مشروعة في حال إذا اعترف المحكومون بحق الحاكم إصدار الأوامر لهم. واذا فقد من يتمتع بالسلطة المشروعية، فانه سيفقد السلطة آجلا أم عاجلا ( على الأغلب عاجلا). ويمنح "الربيع العربي" وسقوط الديكتاتوريات في أوروبا الشرقية وفي بعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا الأمثلة الساطعة على ذلك. فقد سبق الإطاحة بالأنظمة هناك، فقدان موافقة المواطنين على الخضوع والامتثال للسلطات القائمة. وسقطت تلك الأنظمة تحت ضربات الانتفاضات والاحتجاجات الجماهيرية، على الرغم من أنها كانت تمتلك وسائل قمع وتأثير ايديولوجي، فاعلة.
ومن المميز إن المشروعية تتوارى في البداية لدى المحكومين: يكفوا عن الاعتراف بحق أصحاب السلطة بالحكم والإدارة. ولم تعِ الشخصيات الحاكمة بعد، إن الوضع يتغير، وتستمر بالإيمان إن المحكومين مازالوا مستعدين للامتثال والخضوع لهم. وتستند في الوقت نفسه على تقاليد مشروعية النظام، القائمة على المؤسسات والمراسم ذات الصلة، والمطلية بأحقية الوراثة أو الانتخابات...الخ. بالإضافة إلى ذلك هناك نظام الاتصالات العكسي: إن لدى السلطة معلومات ومعطيات كافية عن حالة الوضع في المجتمع، وتسترشد بذلك بالأساس على المؤشرات الموضوعية: على سبيل المثال مستوى الجريمة، وسعة نطاق حركة الإضرابات، وكثافة أنشطة الجماعات المعارضة للنظام. ولحد أدنى يتم تسجيل ديناميكية وعي الجماهير والاسترشاد به: مثل تعب المواطنين من هؤلاء أو أولئك الحكام، خيبة الآمال في الزعماء السابقين، التطلع إلى أفكار وقيادات جديدة. وبالتالي نشوء القلق والألم الناجمة عن وعي الحكام بفقدان مشروعيتهم، فيسعون إلى تأويل نتائج تحليل الوضع القائم في البلد، التي تكون حتما ذات طابع ازدواجي وملتبس، بطريقة تناسبهم.
وتجرى في العائلة مثلاً عمليات على غرار ذلك ولكن بنطاق ضيق. مثلاً إن الابن (الابنة) في لحظة ما يكف عن الاعتراف بمشروعية سلطة الوالدين، انه لم يعد يرى إنهم يمتلكون الحق في التحكم بتصرفاته، أو على الأقل التحكم بها بذلك النطاق الذي كان سابقاً. لنفترض انه مازال يعترف بحقهم بمنعه من العودة متأخراً للمنزل، ولكنه يمتنع عن الامتثال لوصاياهم بالنسبة لكيفية اختيار موضة ملابسه. بيد أن الوالدين لم يعوا بعد تلك التغيرات التي تطرأ في العلاقات بابنهم، مما سيؤدي حتما إلى نشوب مواجهة. ومن ثم تضيق بالتدريج مساحة مشروعية سلطة الوالدين، وتتقلص السلطة نفسها والعلاقة بين الوالدين والابن وتتحول، وتنتقل إلى مستوى جديد.
إن المؤشر التجريبي لمستوى مشروعية السلطة هو الهيبة التي تحظى بها وسائل الإرغام والإجبار في الحياة اليومية. مثلا اذا ما دار الكلام عن مشروعية السلطة السياسية، فإن انتشار عدد غفير من رجال الأمن والشرطة المدججين بالسلاح، يدفع للافتراض، أن المواطنين لا يعتبرون السلطة السياسية مشروعة، بمعنى انهم غير مستعدين للخضوع والامتثال لها طوعاً. أو افتراض آخر يتمثل في أن أصحاب السلطة انفسهم يدركون لا مشروعيتهم، ولذلك ينتظرون مقاومة المحكومين لها. أن ويمكن تكون الأوضاع في العراق وفي عدد من الدول العربية ودول العالم الثالث مثلا ساطعا على ذلك، حيث انتشار الجنود المسلحون في الشوارع ( أكثر بكثير مما تستحقه حجة مكافحة الإرهاب) والمدرعات على تقاطع الطرق، أصبحت ظاهرة عادية، بينما في الدول الغربية مثلا إن البوليس لا يحمل السلاح، ولا يراهن على القوة، وإنما على تقاليد الاحترام للبوليس.
وضع عالم الاجتماع الألماني المعروف ماكس فيبر ثلاثة أنواعا للمشروعية: مشروعية قائمة على التقاليد، ومشروعية قائمة على القانون، وبالتالي مشروعية قائمة على الكارزم، أو قوة الشخصية وتأثيرها. وتقوم السلطة في الحالة الأولى بالأساس على العادات، وتنظم تقاليد القواعد المتراكمة،علاقات السلطة. وتسود الحالة الثانية سلطة القانون، بمعنى أن الناس يسيرون وفق قواعد موضوعة، ويعترفون بان هذا النظام مقبول لتنسيق وتوافق المصالح، وعلى العموم لضمان التفاعل والتعاون الاجتماعي. والحالة الثالثة للمشروعية هي الكارزمية، القائمة على الاعتراف بحق هذا الفرد أو المجموعة حصرياً بحكم الناس وإداراتهم. ومن المعروف أن من النادر نقل السلطة بالوراثة في هذا النوع من الحكم، نظراً لأن هذا المشروعية الكارازمية تستدعي وجود مميزات ومواصفات فذة لدى الشخص الحاكم أو نادراً النخبة الحاكمة. علما إن السنوات الأخيرة شهدت بعض حالات نقل السلطة الكارازمية بالوراثة كما في كوبا وكوريا الشمالية ولحد ما في سوريا، على الرغم من أن الحكم في مثل هذه البلدان لا يقوم حصراً على كارزمية القائد الوريث، قدر قيامه على أساليب الإدارة الديكتاتورية واعتماد وسائل الإرهاب والشمولية.
ما هو رد فعلك؟






