جوانب اجتماعية فـي موازنة 2019...

عين نيوز

مارس 2, 2019 - 12:13
 0
جوانب اجتماعية فـي موازنة 2019...
بدون وصف


 د. لاهاي عبد الحسين

لعل الإنطباع الأول والرئيس الذي يحصل عليه المعاين للموازنة الإتحادية في العراق لعام 2019 هو أنّها صممت للمحافظة على واقع الحال وتعزيزه بكل ما ينطوي عليه من ركود وترهل على مستوى الأداء والإنجاز. لم تستجب موازنة 2019 للمطالبات الشعبية الواسعة والمتكررة بتحقيق تغير حقيقي لصالح تحسين الخدمات وتنشيط الاقتصاد وتنويعه ليكون قادراً على خلق فرص عمل لأعداد متزايدة من الساعين إليها.

فقد وضعت الموازنة وفق نفس طريقة التفكير التي قادت فريق العمل عليها في الفترة السابقة تحت إدارة د. حيدر العبادي التي انشغلت بحروب داخلية ونزاعات مسلحة وتظاهرات وتذمر مجتمعي واسع. ظروف أدت بها إلى استخدام استراتيجية الحل الجراحي الذي تمثل بالتحرك العسكري والأمني من جانب، ومحاولة تحسين خدمات الكهرباء والماء بلا نتائج حاسمة، من جانب آخر. وهذا ما يحتم ضرورة استبدال فريق العمل على أي موازنة اتحادية مقبلة بآخر يفكر بطريقة مختلفة إذا ما أريد العمل حقيقة على تخليص البلاد من مشاكل جدية وخطيرة تحدق بمستقبلها. تدعم الموازنة بالصيغة التي أقرت فيها القوي والغني وصاحب المنصب والإمتياز وتغلق الباب بوجه الآلاف المؤلفة من العراقيين ممن يتطلعون لتحسين ظروف حياتهم اليومية وتطوير نوعيتها أو ممن يحلم منهم بالتأسيس لها من الشباب، ابتداءاً.
الموازنة ليست وثيقة اقتصادية فحسب. وهي ليست خرجاً لتوزيع العطايا والهبات إستجابة لصراعات سياسية تسودها قاعدة التغالب والمنافسة بكل الطرق المتاحة وغير المتاحة للإستحواذ على الأكثر والأهم دفاعاً عن مصالح فئات وشرائح محددة. وهذا ما نقله موقع الخليج أونلاين عن موجة الإنتقادات الموجهة من قبل الكتل السياسية والمحافظات التي احتجت على "حصصها المالية"، وليس على جوهر ما يفترض أنْ تسعى الموازنة لمعالجته. الموازنة نشاط إنساني وطني يوضع بصيغة خطة تفصيلية شاملة تهدف إلى النهوض بأحد أهم أدوات التحول نحو الديموقراطية والتي تتمثل برعاية رأس المال البشري لتنميته وتطويره. فما نفعها إذا ما أهملته وإنشغلت عنه لتأمين ظروف ومصالح البعض القليل والمتننائي في مكاتب رسمية لا يصلها أحد! من أجل أنْ تكون الموازنة فعالة ومفيدة فإنّ عليها استهداف الجوانب الاجتماعية لتشمل البشر لا الحجر بخيراتها ونعمها. لهذا فهي علم واختصاص يقوم على قواعد عمل تحتم على المسؤول عنها أنْ يلم بحاجات وتطلعات الجميع ولا يغفل طرفاً على حساب طرف. فيما عدا ذلك فإنّها يمكن أنْ تكون ورقة صماء بكماء تعمل بصورة آلية وتفشل في الوصول إلى غاية اجتماعية نبيلة. فالموازنة الوطنية تتكلم وتقول عندما تأخذ شكل الحراك والتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولكنّها تنكفئ وتخمد سريعاً عندما لا تفعل ذلك.
بلغت الإيرادات في الموازنة الإتحادية لعام 2019 كما نشرت في موقع "الغد برس" الألكتروني (105) مليارات دولار يأتي ما يقدر بـ (94) مليار دولار منها من مبيعات النفط التي تقارب سقف الأربعة ملايين برميل يومياً وهو أعلى معدل انتاج للنفط في تاريخ العراق منذ اكتشافه في عشرينيات القرن الماضي بسعر تخميني يبلغ (56) دولاراً للبرميل الواحد. وقدر مبلغ الإيرادات غير النفطية فيها بـ (12) مليار دولار فقط. أي أنّ العراق يعتمد بنسبة 89% في تحصيل إيراداته على بيع النفط. بالمقابل بلغت النفقات التقديرية (132) مليار دولار بضمنها أقساط الدين الداخلي والخارجي البالغة (11) مليار دولار. وهذا يعني أنّ مقدار العجز في الموازنة يقدر بـ (27) مليار دولار. مبلغ ضخم يعالج عن طريق الإقتراض من مصادر أجنبية. يقترض العراق من جهات متعددة يتقدمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومصارف في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد والمملكة العربية السعودية والكويت. اللافت أنّه فيما يبلغ مجموع هذه القروض ستة مليارات دولار فإنّ العراق يدفع أربعة مليارات دولار كفوائد مستحقة. تحصل المناطق المحررة من هذه القروض على مبالغ متساوية ضحلة تحدد بثلاثة ملايين دولار لكل منها وهي محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى دون الأخذ بنظر الإعتبار مقدار الخراب والضرر الذي لحق بكل منها على حدة كما في الموصل على سبيل المثال. وتحصل هذه المحافظات أيضاً على مبالغ محددة من مجموع مليار دولار واحد من الخزينة توزع عليها بحسم حجم السكان فيها لذات الغرض. على مستوى الإستثمار، رصد مبلغ (35) مليار دولار لكافة المحافظات توزع عليها حسب حجم السكان في كل منها. يأتي (28) مليار دولار من هذه النفقات من خزينة الدولة وستة مليارات دولار تستحصل بصيغة قروض أجنبية. وهذا يعني أنّ الإستثمار الذي يمثل عصب الاقتصاد الوطني في أي بلد لا يسجل أكثر من 33% من حجم الإيرادات وهي نسبة واطئة جداً في أحسن الأحوال. ثم إنّ مبلغ الإستثمار هذا تستهلكه واحدة من أصغر الهيئات المستقلة.
هذه بيانات اقتصادية موثقة إحصائياً ترعب أي دولة في العالم، اليوم. فلا شيئ يهدد سيادة الدولة غير أنْ يكون لديها عجز اقتصادي كبير بهذا الحجم. ولعل الأكثر مدعاة للقلق أنْ يصار إلى معالجة العجز بمزيد من العجز عن طريق غض النظر عن النفقات الكثيرة التي يمكن ضغطها وتأتي في مقدمتها المبالغ المحددة لنفقات الرئاسات الثلاثة والهيئات المستقلة غير المرتبطة بوزارة من قبيل المفوضية العليا لحقوق الإنسان وهيئة النزاهة والمساءلة والعدالة وهيئة دعاوى الملكية وغيرها من الجهات الإستهلاكية بطبيعتها. فالموازنة تهتم بتأمين رواتب عالية للمشتغلين في هذه الدوائر إلى جانب تخصيص عدد كبير من الإمتيازات ومنها السيارات التي تبلغ خمسة لمن هم بمستوى رئيس وأربعة لكل من نوابهم وثلاثة لكل وزير ومن هم بدرجته وسيارتان لوكلاء الوزير ومن هم بدرجتهم الوظيفية وواحدة لعموم المدراء العامين ممن تقدر أعدادهم بالآلاف. لا يخفى على أحد ما لأبواب الصرف والإنفاق هذه من عبء على خزينة الدولة والتي يمكن التحرر منها عن طريق أنْ يقوم المعنيون بتولي توفير الخدمات التي يحتاجونها للقيام بعملهم أسوة بعموم الموظفين والمشتغلين ممن يتحملون نفقات النقل والإقامة والعلاج والسفر على نفقتهم الخاصة وبحدود ما تسمح به ميزانياتهم الخاصة.
من جانب آخر أستبشر كثيرون بالإعلان الصادر عن وزارة الكهرباء حول تثبيت (33) ألف شخص ممن عملوا بصيغة متعاقدين لسنوات عديدة ولوحظت مسارعة وزير الكهرباء السابق المهندس عبد الكريم عفتان للتذكير بأنّ هذا الإنجاز ينبغي أنْ يسجل له لأنه من عمل عليه خلال فترة توليه العمل وزيراً لوزارة الكهرباء في حكومة سابقة. بيد أنّ قليلين انتبهوا إلى أنّ موازنة 2019 أقرت في المادة (11) ثانياً من الفصل الثالث وقف التعيينات الجديدة ضمن التشكيلات التابعة للدولة وألزمت الوزارات الإتحادية حذف الدرجات الوظيفية ضمن مفردات ملاك الجهات المعنية عند خلوها بسبب النقل أو الإحالة على التقاعد أو الإستقالة أو الوفاة. كما منعت في نفس المادة رابعاً التعيين في دوائر الدولة كافة بصيغة التعاقد. أضف إلى ذلك أنّه في الوقت الذي تقرر الموازنة وقف التعيينات في دوائر الدولة ومؤسساتها ووقف طريقة العمل بنظام العقود فإنّها حسبما جاء في النقطة (ج) من نفس المادة الفصل الثالث تعطي مجلس الوزراء أو من يخوله السماح للوزارة أو الجهة غير المرتبطة بوزارة التعاقد مع من تراه مناسباً "على ألا تقل درجته الوظيفية عن خبير"، أو من يناظره وبما لا يزيد على خمسة أشخاص للجهة المعنية في بحر هذا العام، 2019.
الظاهر إنّ هذا جزء من توجيهات البنك الدولي لتقليص حجم الدولة بهدف خفض النفقات وهي مشكلة أشبه ما تكون بالعضوية التي لا بد من معالجتها إلا أنّها لا يمكن أنْ تعالج بهذه الطريقة. فهذه طريقة تستهدف الأضعف والأفقر والأكثر حاجة للدعم ممن يشكلون بضعة ملايين عراقي بلغ السن التي تؤهله للعمل أو يغذّ الخطى في طريقه إليها من الصبيان واليافعين. إنّها طريقة تذكر بأسلوب أمانة بغداد بشن غاراتها المفاجئة على أصحاب البسطيات وصغار المشتغلين من الكسبة والكادحين لتحاربهم في صميم ما يجهدون به لتأمين مصادر عيشهم. طريقة متعجرفة لا تجيب على السؤال: أين سيذهب هؤلاء ممن يعملون في بيع البضائع رخيصة الثمن أو الفواكه والخضر وينتشرون في طول البلاد وعرضها ومنذ عقود خلت من الزمن. كان حرياً بمن عمل على الموازنة أنْ يتحسس لهؤلاء وألا يعمل وفق مبدأ الترضية والإقناع للجماعات الأكثر نفوذاً على حساب من لا ممثل حقيقي لهم في مؤسسات الدولة ودوائرها المختصة. فالمبدأ أنْ تحقق عدالة في التوزيع لرفع مستوى الأفقر والأضعف للحد من التفاوت الطبقي الآخذ بالإتساع وليس التضليل عليه لنسيانه وإهماله وربّما محاولة محوه لأنّه موجود وبقوة وأنّه لذلك ينبغي أنْ يكون هاجساً لأي نظام سياسي يسعى إلى البقاء في السلطة.

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0