الحزب الشيوعي العراقي.. وأزمة الهوية الأيديولوجية! (2-2)

عين نيوز

يونيو 26, 2018 - 07:51
 0
الحزب الشيوعي العراقي.. وأزمة الهوية الأيديولوجية! (2-2)
بدون وصف


مقاربة سيكوسياسية

فارس كمال نظمي

ما الخلفية السيكوسياسية للمعارضين؟
إن أعداداً مهمة من الشيوعيين وأصدقائهم صاروا اليوم يذهبون إلى التشكيك وحتى الاتهام، في أن نزعة القيادة الحالية نحو تغليب الممارسة العملية الاحتمالية، على التنظير الجاهز "الآمن"، إنما يخفي في طياته خفوتاً - أو ربما انطفاءً وتخاذلاً- في النزعة الأخلاقية "الطهرية" و"العصامية" التي اعتاد أن يصف الشيوعيون أنفسهم بها دوماً، وهم في ذلك يتجنبون المجادلة في حقيقة أن الطريق إلى الخطيئة كم مرةً كان يمر بمسارات دوغماتية معمّدة بالنوايا الحسنة، وكم مرة أدى تجريبُ الممارسات الاحتمالية إلى نتائجَ فاضلة.

ومن هنا يمكن تحديد الجذر السيكولوجي للأزمة الحالية التي تواجه هذه القيادة في علاقتها ببعض قواعدها وأصدقائها المعارضين، فهؤلاء المعارضون (ممتعضون وناقمون) يمكن تصنيفهم مكانياً إلى بيئتين، وعمرياً إلى جيلين، وهو تصنيف عمومي لا يخلو من تداخلات فرعية ومن تبسيط لأغراض التوصيف.
الشيوعيون الممتعضون وأصدقاؤهم داخل العراق - يشكل بعض الشباب الراديكالي المحافظ جزءاً منهم، أي جيل ما بعد 2003- لطالما كانوا يبدون انحيازاً - أو ولاءً- وجدانياً لحزبهم بوصفه رمزاً أخلاقياً لا تمسّه الخطيئة (سرديات متوارثة)، له وظيفة إشباع حاجتهم لرمز يتماهون به ويستعيرون هويته. أما الجانب الفكري فيبدو أقل أهمية بالنسبة لهم إلا إذا كانت الأفكار تحقق إشباعاً عاطفياً لهم. وارتبط كل ذلك لديهم بضعف روح المثابرة المستقبلية، وبالاندفاعية في الاستجابة للأحداث، وبالتأثر السلبي بآراء الآخرين الناقدة لسياسة الحزب إلى حد الجزع أو فقدان الثقة بالنفس أحياناً.
وقد عبّروا في الأزمة الأخيرة عن صدمتهم وخيبتهم بشكل علني وفوري في مواقع التواصل الاجتماعي من موقف قيادتهم، إذ كانوا ينتظرون منها موقفاً حدياً بمقاطعة الصدريين فوراً، وإيقاف مشروع التحالف معهم والذهاب منفردين إلى أي شكل من أشكال المعارضة، دون السعي لإقامة حوار استقصائي داخلي أو النظر إلى الأزمة بوصفها معطى سياسي مركب يتطلب التمحيص والتحليل والتأويل والنقد وصولاً إلى إقامة تصورات جماعية يتطلبها العمل الحزبي.
هؤلاء يرون -لا شعورياً- في الشيوعية "أيقونة" تطهرية مغلقة الأسرار لا يرقى إليها الشك، لكنهم ما أن يجدوا أن "حرّاس" هذه الأيقونة يتصرفون على نحو أقل "قدسية" مما كانوا يظنون، حتى يعلنون امتعاضهم من الحرّاس"المتخاذلين" لتظل الأيقونة "طاهرة" في مخيالهم، دون أن يعني ذلك موقفاً نهائياً إذ تظل تراودهم مشاعر تأنيب الضمير بسبب ما أعلنوه من "تمرد". هذا ما يمكن تسميته بـ"التوجه الأيقوني"، الذي تشير كل الملاحظات الميدانية الى أنه يوفر إشباعات/ توترات نفسية لأصحابه، إذ يتصفون بنزعتهم المتذبذبة للاحتماء بما هو "مقدس" ما يجعلهم مترددين بين الامتعاض تارة والقبول تارة أخرى، وهذا يقلل من تأثيرهم الفعلي في مجرى الأحداث السياسية العامة.
أما الشيوعيون الناقمون وأصدقاؤهم خارج العراق - وجلّهم من جيل ما قبل 2003 - فإنهم يمثلون جيلاً كفاحياً كاملاً قضى أكثر من خمسة عقود في العمل السياسي والمسلّح في صفوف الحزب أو قريباً منه، معايشاً الصورة "الاستشهادية" التي التصقت بشخصية الفرد الشيوعي. ولذلك فإن مخيالهم الايديولوجي لا يحيد عن صورة "الطهرية العفافية" و"النقاء الفكري المطلق" التي "يجب" أن يتحلى بهما الحزب في كل الظروف والمواقف والمستجدات. وهم في أماكن عيشهم المستقرة والبعيدة، ينتظرون من أقرانهم في الداخل المضطرب أن يحققوا توقعاتهم المثالوية هذه، بتقديم مواقف "بطولية" بوصفهم مجموعة من الرفاق المستعدين بالضرورة للتضحية بحياتهم، ممن لا يمكن أن "يتلوثوا" باحتمال العمل السياسي المشترك مع آخرين من ايديولوجيات مخالفة (الإسلاميين تحديداً)، دون الأخذ بالاعتبار نسبيات المكان والزمان ودرجة الوعي المجتمعي ونوع السلطة وصنف التحديات وجسامة الأخطار وطبيعة الصراع السياسي وحجم الإمكانات الذاتية.
وحينما يتم "خرق" كل هذا -في منظورهم-، فإن بعضهم يعزوه إلى "خيانة" الأمانة، والبعض إلى "التفريط" بتاريخ الحزب وحقوق الشعب، إلى جانب عوامل نفسية ذاتية تتصل بخصومات شخصية قديمة تظل حيّة في الوجدان والتفكير في بعض الحالات. فالتطبيق البراكسيسي الاحتمالي لمفهوم الشيوعية يسرق منهم إلى الأبد طمأنينة التحديق الآمن بلوحة "فاضلة" تشتبك فيها قوى التقدم المطلقة بقوى الرجعية المطلقة دون أي تداخل بالخنادق، ويفتح في الوقت نفسه لديهم أبواباً عقلية مقلقة ومربكة عن احتمالاتٍ غير بطولية بالضرورة، لن يمكن إغلاقها بعد اليوم.
وهذا ما يمكن تسميته بالتوجه اليوتوبي، الذي يضع أصحابه دوماً في موقف "امتلاك الحقيقة الوحيدة" تعويضاً عن مغادرتهم للدور السياسي الفعلي، إذ يوفر ذلك لهم "زهوَ" الدفاع عن عالم فاضل حتى وإنْ لم يعد بمقدورهم الإسهام في الوصول إليه. وهم في ذلك يقفون أيضاً خارج التأثير الفعلي في مجرى الأحداث السياسية العامة.

ما المآلات المحتملة للأزمة؟!
مما تقدم تتضح حالة التأزم الناتجة عن المحاولة الضمنية غير المعلنة لقيادة الحزب الشيوعي، لإعادة تعريف الهوية الشيوعية بوصفها ممارسات براكسيسية تسعى إلى نمطٍ من ديمقراطية اجتماعية رشيدة دون الحديث عن تصور محدد لمجتمع شيوعي بعينه، في مقابل تعريفين سابقين منافسين أحدهما أيقوني والآخر يوتوبي، يستندان إلى تنميطات ايديولوجية ثابتة ذات طابع حتموي.
فهل يستدعي ذلك ضرورة آنية أو مستقبلية للتخلي عن عنوان "الشيوعية" وإعادة هيكلة الحزب وفق تسمية أخرى ومنهج نظري يتفق مع توجهه الاشتراكوي الحالي؟ أم إن الأمر سيستدعي انشقاقات بنائية تمنح الجميع حق التأويل الايديولوجي للهوية الحزبية وفق منظورات متباينة يحقق كل منها استقلاليته التنظيمية؟
وإذا حدث تراجع آني في الأزمة الحالية لأي سبب سياسي يتعلق بمواقف جديدة تتخذها القيادة أو سعياً لإرضاء وتطمين المعارضين، فهل سيكون ذلك مدخلاً لإنهاء الخلاف؟ أم إن ذلك لن يكون إلا معالجة مؤقتة تنتظر تجدد الأزمة مرة أخرى بصيغ مماثلة أو مختلفة مستقبلاً، ما دام الخلاف حول الهوية الأيديولوجية للحزب دخل مرحلة انتظار الحسم مهما طال أمدها؟
لا يمكن تقديم رؤية محددة أو نهائية بهذا الشأن في هذه اللحظة المتأزمة من التاريخ الفكري للحزب الشيوعي العراقي. كما لا يمكن التنبؤ الجازم بأي المواقف ستكون له أرجحية الـتأثير في قادم الأيام، إذ أن القيادة نفسها تضم استقطابات متباينة غير محسومة في اتجاه نهائي محدد لا رجعة عنه. فالمآلات ستظل مفتوحة على احتمالات متعددة حسب مخرجات الأزمة الحالية، وحسب تماسها الجدلي بمجمل التطور السياسي في العراق.
إلا أن المؤكد هو أن هذا الحزب قد دخل مرحلة الحراك الفكري الحيوي باتجاه التغيير، وأنه أصبح هو الآخر تحت رحمة قانون الديالكتيك «التراكمات الكمية تؤدي إلى تحولات نوعية». فهل ستعينه نزعته التكيفية المزمنة على اجتراح مقاربات توفيقية تدمج الأيقوني واليوتوبي في بنيته البراكسيسية المتنامية، على نحوٍ تجديدي يؤهله- في مدى زمني غير قصير- للتحول من حزب هرمي ولائي نصوصي ماضوي العاطفة بيروقراطي التنظيم، إلى حزب أفقي حواري مستقبلي النزعة كارزماتي الـتأثير، دون أن يفقد شغفه بحلم الشيوعية "المنتظرة"؟!

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0