التوتاليتارية تعيد لمّ شملها...
عين نيوز


د. لاهاي عبد الحسين
لا قدرة لنظام على إلتهام نفسه وتضييعها وإتلافها أكثـر فعالية من النظام التوتاليتاري الشمولي الإستبدادي الأحادي الذي يقدم التاريخ القديم والحديث أمثلة عليه تتباين من حيث الأشكال والممارسات والمرجعيات وتتطابق بالأهداف والغايات. فقد سقطت امبراطوريات ودرست أمم بسبب تعاظم شأن الطبيعة التوتاليتارية التي تنامت فيها والتي أدت إلى إنغلاق وتقوقع وإنسحاب كان كفيلاً بعزلها ووأدها. ظهر هذا في المانيا النازية وإيطاليا الفاشية والإمبراطوريات الإستعمارية القديمة.
تعرف التوتاليتارية في سياق أنّها نظام سياسي يقوم على سلطة الفرد أو الحزب والجماعة ويستند في صيغته الأكثر تقدماً إلى أيديولوجيا تضع الخطوط العامة الرئيسة لتوجهات النظام. وبحسب عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين في كتابه "ماهي الديموقراطية"، فإنّ التوتاليتارية لا تكتفي بلجم الشعب وإسكاته لإحكام القبضة عليه بل تعمل على تعبئته ليكون صوتاً لها وصدى لسياساتها. وبذلك يصبح الشعب نفسه أداة قمع مؤثرة يستخدمها النظام التوتاليتاري بفعالية. ينتشر أعضاؤه ويتغلغلون في مختلف الجماعات ليكونوا عليها رقيباً ومبرقاً ونذيرا. يمزقون ثقة الناس بعضهم بالبعض الآخر سواء أدركوا ذلك أو لم يدركوا من خلال أساليبهم المتوترة ووشاياتهم الكاذبة لتنتحر الألفة والمحبة والسجايا الحسنة التي تؤسس لكل حاضرة اجتماعية. المهم أنّ الصانع يدري ويعرف ما يقوم به وهو الذي يتحكم بحركة أدواته من العملاء والأنصار والمنفذين. وبحسب فالح عبد الجبار تتمثل إحدى الأشكال التأسيسية للنظام التوتاليتاري بإلغاء الفصل بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية. يحدث هذا في ظل صياغات رسمية تنأى بنفسها عن ذلك تقابلها ممارسات عملية تحث عليها وتشجعها وفي الأقل تغض النظر عنها من خلال قبول الوساطة والخضوع للتدخلات وإستسهال تجاوز القانون وعدم احترامه. يهتم القائمون على مؤسسات كهذه بالظهور مظهراً حسناً ويعرفون أبجديات الفصل ووظائفه لتحقيق الحيادية والتجرد وبالتالي الإدعاء بالعدالة بيد أنّهم يخالفون ذلك بالتطبيقات العملية والممارسات اليومية والملموسة. تظهر النزعة لإلغاء الفصل بين السلطات وخلط الأوراق وتداخل التشريعات والقرارات عندما تسود المجاملات والإتصالات وتتداخل الوظائف والمهمات لتنحى جانباً مسألة الحيادية والحكم بتجرد لتسهيل عقد الصفقات وإجراء التسويات. ويمكن ملاحظة أنّ إلغاء الفصل بين السلطات وخلط التنفيذي بالقضائي وهذا بالتشريعي والتنفيذي لا تتم بالضرورة عبر العنف المعلن بصيغة انقلاب أو مرسوم فوقي أو بث البيان رقم (1) إنّما قد يتم بالتراضي والتفاهمات الخفية بين الأطراف المعنية. ويؤدي هذا بدوره إلى تحرير صيغة الإنتحار السياسي والإطاحة بالديموقراطية كنظام يعد الجميع بالعدل والمساواة. نظام لا يهدف فقط إلى تسييد إرادة الأكثرية واحترام قناعة الأقلية بل والحصول على موافقة الأقلية على سيادة الأكثرية بحسب السياسة والبرنامج التنفيذي الذي تتبناه. لا تكتفي الديموقراطية بهذا فقط بل وتستجيب لهدف الحد من السلطة وإتاحة المجال لمشاركة حقيقية واسعة تعبر عن نفسها اليوم بعنوان "الديموقراطية الاجتماعية". تعني هذه القدرة على تلبية مطالب الجماعات المتعددة بحسب تخصصاتها وميدان عملها. تقدم الإحتجاجات الشعبية في الجزائر صورة واضحة لهذا النوع من الحراك الشعبي حيث تخرج الجماهير الطلابية والعمالية والنقابات وموظفوا الخدمة العامة في مجالات التعليم والصحة والبلدية والقانون، إلخ. لقد سئمت الشعوب أنظمة سياسية متحجرة لا تهتم إلا بالكرسي والمنصب والوظيفة ولم تعد قادرة على الإتيان بجديد مبتكر قادر على إنعاش النظام وتنقيته من براثن الفساد والفاسدين. ولهذا فإنّها لا تجد ضيراً في التخلص منه. التوتاليتارية تنبع وتمارس وتصبح نمطاً من السياسة والسلوك لأنّها مغرية لسهولتها من قبل الحاكم وأكثر راحة له على المدى المباشر والمنظور وهي أكثر إحكاماً لفرض الهيمنة على المحكوم ولكنّها ضارة بطبيعتها، ميالة إلى الإبتعاد والإبعاد على المدى البعيد مما يؤدي إلى القضاء عليها ووضع نهاية حتمية لها. بالنهاية فإنّ التوتاليتارية نظام سياسي يهدف إلى فرض الهيمنة وإلغاء الآخر وهو بحكم طبيعته هذه "يحمل بذور دماره بنفسه"، كما عبرت حنة أرندت.
تتكون التوتاليتارية عندما تسمح أرقى النظم الديموقراطية في العالم بغلبة البعض على البعض الآخر من خلال الجماعة العرقية أو الدينية أو المذهبية وحتى الجندرية. وقد يصار إلى محاولة إصلاح هذه التعوجات من خلال إضفاء السمة الحزبية عليها بطريقة تشكيل الأحزاب. بيد أنّ هذه الأحزاب تفشل في هدفها لأنّها لا تعمل كجسر بين الجماعة الشعبية ومن يمثلها في النظام السياسي وتكتفي بأنْ تكون خادمة ومستعبدة لمصالحها الشخصية والجماعاتية الضيقة. لهذا فالنظم الديموقراطية تهتم بوضع الضوابط والمجسات لتحسس مدى تقدم النظام بالطريق السليمة التي اختارها. فيما عدا ذلك فإنّ أي نظام ديموقراطي عرضة لمواجهة خطر الإنحراف والتردي نحو مزيد من التوتاليتارية وبالتالي العزلة والتآكل الذاتي.
يبقى السؤال هل يدرك المنهمكون بالعمل السياسي خطورة المهمة ومبلغ الحرج فيها! وإنْ لم تدرك الغالبية العظمى منهم ذلك فهل تدرك الأقلية الحاكمة مخاطر النزول إلى هذا الدرك الذي يغامر بمصير أمة وشعب وليس مجرد عدد محدود من الأفراد والجماعات! اليوم، تعيد التوتاليتارية بناء نفسها ولمّ شملها في العراق متجاهلة أخذ العبرة من دروس الماضي التي أفضت إلى نتائج كارثية لا تخفى على أحد. في الماضي كنا نسمع مقولة "العراقيون بعثيون وإنْ لم ينتموا"، في إشارة إلى الإنتماء إلى الحزب الحاكم، بإعتباره الخيار الوحيد والأفضل. لم يتغير الكثير منذ ذلك الوقت. فثمة من يقول اليوم "العراقيون بعثيون إنْ لم ينتموا إلى أحد الأحزاب الحاكمة بإعتباره الطريق الأوحد والفريد". هكذا إذن! تتضجر الشعوب وتتذمر بطبيعتها من سوء الأداء على مستوى تقديم الخدمات والإدارة والفساد وهذا ما يتخم به العراق. الحكمة أنْ يستمع إليها لا أنْ تصم الآذان عنها. هذا ما تفعله القيادات السياسية الحية التي تربط وجودها بمدى رضا مواطنيها عنها وليس غير.
تعلمت الرأسمالية من أعدائها والمناهضين لها. فهذه أعمال كارل ماركس يعاد طبعها وترجمتها وتوزيعها ودراستها بغية إستقاء الدروس منها. وهذه نظم الرعاية الاجتماعية التي تقوم عليها سياسات دول تحظى بأعلى معدلات التقدم والسعادة والرفاه مثل النرويج والدنمارك والسويد يتم تبنيها مستفيدة من الإرث الماركسي المبشر بالخلاص. وهذه برامج العمل بكل تفاصيلها من تحديد ظروف العمل وساعات العمل والضمانات وتحسين ظروف العمل كلها تستلهم ذلك الفكر النيّر الذي لم يبق محنطاً بلا جدل وتقليب ولكنّه بالنهاية أستخدم للتطوير والإرتفاع بمستوى نوعية حياة الناس من خلال تحسين مستوى الأداء.
أما التوتاليتارية في بلد لا يحكمه العارفون بمخاطرها فإنّها توغل في الإنغلاق وتكميم الأفواه وتضحي بالكفاءات وتوسع السجون والمعتقلات بدل المدارس والمنتديات الثقافية والاجتماعية ولا تتوانى عن تنفيذ الإغتيالات لتصل بنفسها إلى خط النهاية والسقوط وليس التقدم والفوز والنجاح. سيكون الطريق أكثر طولاً ولكنّه سيصل إلى نهايته حتماً عندما تحكم الأقلية الحاكمة السيطرة على الأفواه والضمائر والأفكار لتنهار التوتاليتارية ويعلن عن نعيها.
كان يمكن لحركة الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدةالأميركية أنْ تسقط النظام الرأسمالي المتحجر الذي لا قلب له. ولكنّ الرأسمالية الأميركية أظهرت أنّها أذكى من أنْ تسمح بذلك. فكان أنْ انفتحت وأستمعت وتعلمت الأمر الذي عبر عن نفسه بصيغة تبني سياسات أستهدفت خفض التفاوت الطبقي بين الجماعات المتعددة وصارت الجامعات ميداناً للمنافسة والتقدم من خلال إنعاش حركة تطوير مقترحات قوانين صارت فيما بعد قواعد عمل لتمكين الفقراء والمهمشين على أساس اللون أو العنصر أو الطبقة أو الجندر للدخول في مختلف التخصصات ومؤسسات العمل بإعتبارها البوابة للتغيير ورفع مستوى القناعة والرضا بين المواطنين. فكان أنْ صارت هذه الجامعات مراكز للمنافسة المشروعة على أساس الأداء العلمي والفكري مما ساهم بتحقيق الحراك وتطوير المجتمع وتجديد حيويته.
تتطلب مقاومة التوتاليتارية جهداً لا يختلف من حيث المبدأ عن الجهد المبذول لتطهير البدن من الشوائب والأدران التي لحقت به من خلال الحياة بكل ما تنطوي عليه من تفاعلات وملابسات. على المستوى السياسي فإنّها تتطلب آليات يقف في مقدمتها تطوير وسائل التواصل مع المواطنين. وهذا يعني أنْ تكون هناك مكاتب مفتوحة تعمل بصورة منظمة ولا تفرض إجراءات تعقد أمر التواصل مع الساعين إليها. وهي أيضاً تتطلب تشريع قوانين تحمي حرية الإعلام المسؤول الذي لا يحاسب فيه الكاتب على ما يجتهد بالبحث عنه وتسليط الضوء عليه. مؤسسات تعمل بشفافية وتتيح المجال للإطلاع على أدائها وعملها بالأرقام والوثائق. سيكون من المصلحة تطوير الآليات التي تسمح للديموقراطية بالتطور والنماء ليس في جانب الحرية النسبية الملغمة بالخوف والحذر والترقب. قد تشبع التوتاليتارية غرور البعض ممن يعاني نقصاً من نوع ما ولكنّها قاتلة على المستوى الجماعي إذا ما سمح لها بالتمدد والبقاء.
ما هو رد فعلك؟






