الكشكول.. أقصر الطرق في الترويح عن الكاتب والقارئ

لا أحدثكم عن إيلاف قريش ورحلتهم في الشتاء والصيف، وإنما أحدثكم عن إيلاف رحلة الصباح والعصر (صيفًا، حيث تغيب الشمس بدقائق قبل العاشرة مساءً)

 0
الكشكول.. أقصر الطرق في الترويح عن الكاتب والقارئ

د. نضير الخزرجي

اعتدت منذ سنوات طوال أن أقطع الطريق بين المنزل ودائرة العمل وبالعكس دون استخدام السيارة الشخصية، رغم أن المسافة 8 أميال تقريبًا، وربما استخدمتها أيام العمل لظروف خاصة، من قبيل التأخر بعد انتهاء دوام العمل لفترة طويلة لحضور مجلس وَلائي أو مجلس ترحيم أو للتسوق وما شابه.

وهذا الأمر يجعلني صباح كل يوم أمشي نحو 17 دقيقة من البيت إلى محطة القطار (West Harrow Station)، مستقلاً قطارين مختلفي الخط، ومن محطة القطار (Dollis Hill Station) أو (Willesden Green Station) نحو دائرة العمل في المركز الحسيني للدراسات، مشيًا على الأقدام لنحو 17 دقيقة مثلها، أي أقطع في اليوم الواحد أكثر من ساعة مشيًا على الأقدام، ذهابًا وإيابًا.

متعة المشي في الزحام

في الذهاب أقطع في الصباح الباكر الحديقة العامة (West Harrow Park)، التي تقع منتصف الطريق بين المنزل والمحطة. كما أقطع الطريق من المحطة الثانية إلى دائرة العمل ماشياً بين الأزقة حتى أصل الشارع العام، ثم أواصل الطريق بين الأزقة حتى مقر العمل.

وهكذا في الإياب، عصراً بالتوقيت الصيفي أو مساءً بالتوقيت الشتوي، أقطع الطريق سيراً مثلما قطعته في الصباح. لا فرق إن كانت السماء صافية أو ممطرة، أو كان الجو حاراً أو بارداً، فمتعة المشي صباحاً والسير مساءً في أيام أسبوع العمل متعة جميلة، تحتمها زحمة الشوارع واكتظاظها بوسائل النقل الخاصة والعامة، خاصة في ساعات الذروة صباحاً وعصراً، فضلاً عن توفر خدمة المواصلات العامة من حافلات وقطارات، التي تجعل الملايين من سكان لندن يستخدمونها بشكل دوري، ابتعادًا عن ضجيج الشوارع وكثرة الحفريات والقطوعات التي صارت ميزة شوارع لندن.

نحمد الله إن مررنا بالسيارة في شارع ليست فيه حفريات لشركة الماء أو الكهرباء أو الهاتف أو البلدية وغيرها.

عطور الصباح وعطور المساء

لا أحدثكم عن إيلاف قريش ورحلتهم في الشتاء والصيف، وإنما أحدثكم عن إيلاف رحلة الصباح والعصر (صيفًا، حيث تغيب الشمس بدقائق قبل العاشرة مساءً)، أو رحلة الصباح والليل (شتاءً، حيث تغيب الشمس بدقائق بعد الرابعة عصرًا).

فهي إيلاف كل من فضّل المواصلات العامة على المواصلات الخاصة. ولكن أحدثكم عن زحمة العطور في الصباح التي إلى المشام تتسامى، وأنا أمشي في الحديقة العامة أو بين الأزقة، حيث تمتاز بيوت ومنازل لندن بحديقة أمامية، فضلًا عن الحديقة الخلفية.

وقد اعتاد الناس أن يشتلوا في مقادم البيوت أنواع الورود الفواحة، فكلما قطعت مسافة شممت عطرًا يختلف عن الذي قبله ويختلف عن الذي بعده، وهكذا أكثر من ثلاثين دقيقة في النهار أمشي ورائحة العطور تضوع من واجهة هذا البيت أو ذاك، فضلًا عن نسيم الحديقة العامة والأشجار التي تتزين بها الأرصفة.

أما في العصر (صيفًا) أو في الليل (شتاءً)، فإن العطور هذه المرة ليست من أديم الأرض ولا من ورود الحدائق، وإنما هي عطور من صنع الإنسان وأصلها من أديم الأرض، إنها عطور المطابخ التي تنفث رائحتها إلى الخارج.

وقد اعتاد أهل الغرب، بخاصة في لندن، أن تكون وجبتهم الغذائية الأهم عصر أو مساء كل يوم، فلهم وجبتان: واحدة في الصباح وأخرى في العصر أو المساء، وبينهما وجبة خفيفة، لا كما هو الحال في المشرق والبلدان العربية، فالوجبات ثلاث، وربما أكثر، حسب الوفرة المالية أو البذخ والبطر، حيث فقدت بوصلة المعدة مقاييس الزمن(!).

ولعل من أصعب أيام العودة من العمل إلى المنزل، هي أيام شهر رمضان المبارك، حيث أسير بين الأزقة صائمًا، بخاصة في الصيف، والمشام مفتحة الأبواب على أنواع روائح الطبخ. ولا سيما أن لندن المعروفة بتعدد ثقافاتها تضم جاليات من أكثر من 150 بلدًا، ولكل بلد مطبخه وتوابله وعطره ورياحينه.

الكشكول... من ريحان الأرض إلى ريحان الورق

وهكذا هي الرحلة اليومية في الشتاء والصيف، كشكول وخليط من الرياحين الربانية صباحًا، وكشكول وخليط من الرياحين الآدمية عصرًا أو مساءً، وما بينهما عطر الكتب والمؤلفات والمخطوطات التي تمتلئ بها رفوف المركز الحسيني للدراسات، الذي أمارس فيه الكتابة والتحقيق منذ ثلاثة عقود.

هذه الرحلة تداعت إلى ذهني وأنا أُهمّ بتحرير قراءة موضوعية عن كتاب كشكول ابن أبي تراب الكرباسي للفقيه آية الله الشيخ محمد بن أبي تراب الكرباسي، الصادر في بيروت حديثًا (2025م) عن "بيت العلم للنابهين"، في (648) صفحة من القطع الوزيري، وهو من إعداد الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي.

تنويع وترويح

اختلف أهل اللغة في المعنى المراد من كلمة "كَشْكُول" وأصلها، وإن لم يختلفوا في ضبطها من حيث فتح الكاف الأولى، وتسكين الشين، وضم الكاف الثانية.

هذا الاختلاف يناقشه مُعدُّ الكتاب في فصل مستقل من ثمانية محاور. فبعضهم قال إنها مفردة فارسية، وآخر أرمينية، وثالث آرامية، وذهب آخرون إلى أنها عربية، وقد جرى استخدامها في اللغة التركية. وفي المحصلة النهائية، تعني مجموعة أوراق مجتمعة في كراس أو ملف، أو مجموعة قصاصات في كتاب، أو محاضرات في مغلف وهكذا.

وفي المعنى الاصطلاحي، كما يضيف المعد:

"استخدم بعض المتصوفة، وبالأخص الدراويش، هذه المفردة فيما يحملونه من الحقائب لدى التسول لسحق النفس الأمّارة بالسوء".

وهذه الحقيبة (الكشكول) عبارة عن الغلاف الخارجي لجوز الهند البحري، وهي فصيلة من فصائل جوز الهند، ذات حجم أكبر من جوز الهند المعروف بثلاثة أضعاف تقريبًا، وفي الغالب يكون في وسطه شبه أخدود، ليكون شكله مثل كليتين متلاصقتين من جانبهما الداخلي. يُفصل أحدهما عن الآخر، ويكون جوفه فارغًا إلا مما يسمى بالحليب، ويوضع له حلقة ويُعلق على الكتف.

وبما أنه قوي، استخدمه الدراويش كحقيبة لوضع ما يُحصِّلونه من المال والغذاء، فأطلقوا عليه اسم "الكشكول"، وشاع في الوسط الفارسي، ثم العربي، فالتركي، وغيرها.

الكشكول ليس كأي كتاب

ويختلف الكشكول إذا كان مجتمعًا في كتاب، عن الكتاب إن كان محوره موضوعًا واحدًا، أو موضوعات عدة في محور واحد أو نقطة مركزية.

فالكشكول متنوع الأبواب، ويُؤلف عادة للترويح عن النفس إلى جانب تعميم الفائدة المعرفية. وبتعبير الناشر الأديب اللبناني عبد الحسن دهيني وتشبيهه للكشكول:

"إذا كان جميلاً ورائعًا أن يتجول المرء في حديقة فيها نوع واحد من الورد، فالأجمل والأروع أن يتجول في حديقة فيها أنواع عدة من الورود والأزهار... يشمّ في كل خطوة أريجًا مختلفًا، وذلك يشبه التجول في بستان يضم أشجارًا من نوع واحد من الفاكهة، أو بستان يحتوي على أنواع عدة من الفواكه، فيتناول منها ما لذَّ وطاب".

وعن الغرض من الكشكول المعرفي، يضيف الناشر:

"فكرة كتب الكشكول انطلقت من هذه الفكرة، فمؤلفوها يجدون في تدوين مواضيعها تخفيفًا وراحة لهم من عبء البحث والدرس، وكذلك القارئ يجد فيها تخفيفًا وراحة له من عبء قراءة كتاب قد يكون موضوع بحثه صعبًا أو معقدًا أو طويلاً... فكتاب الكشكول هو الفاصل المريح للمؤلف والقارئ في آن واحد".

ويختلف كشكول عن كشكول؛ ففي العادة يكون الكشكول حصيلة ما جمعه صاحبه من معلومات وموضوعات مختلفة في أبواب الثقافة، والأدب، والفن، والفقه، والتاريخ، والسيرة، وغيرها، استلّها من كتب ومؤلفين آخرين أو سمعها وسطّرها في قصاصات أو دفتر خاص، ثم أظهرها بعد فترة في كتاب مستقل.

وبعض الكتب التي يطلق عليها صاحبها اسم "الكشكول"، إنما هي أفكار المؤلف في موضوعات متنوعة حررها بشكل مختصر وجمعها في كتاب مستقل. وبعضهم ألّف بين ما حرر من عنده وبين ما جمع من غيره، وأطلق عليه اسم "الكشكول".


كشكول العلامة الكرباسي

بين أيدينا "كشكول" العلامة الفقيه آية الله الشيخ محمد بن أبي تراب علي الكرباسي (1324–1399هـ = 1906–1979م)، المولود في النجف الأشرف بالعراق، وعاش في كربلاء المقدسة، وتوفاه الله في مدينة قم المقدسة.

وعنه يقول نجله المعد في التقدمة:

"كان الوالد يطالع في العلوم المختلفة وفي الصحف المتداولة وفي اتجاهات مختلفة ليكتسب المزيد من المعارف العامة والمواضيع الهامة، وكان إذا أعجبته فكرة أو موضوع قيّده في دفتر خاص أو في قصاصة ورق".

وما تبقى من هذه القصاصات، التي ضاع بعضها بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة في العراق والهجرة القسرية إلى إيران سنة 1971م لأسباب طائفية، جمعها النجل بوصية من والده في هذا الكتاب، الذي كان لي شرف مطالعته ومراجعته والتعليق عليه، فضلًا عن قيام الشاعر العراقي الأستاذ حسين البزاز الموسوي بالترجمة النظمية لما ورد في قصاصات الكشكول من أشعار باللغة الفارسية.


تقاريظ ومحاور

صدّر المعد للكشكول بسيرة مختصرة عن حياة والده من حيث النسب والدراسة، وبموجز عن مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة.

كما أورد خمسين تقريظًا، ما بين مدح ورثاء وتوثيق شعري، لمؤلفات صاحب الكشكول، ما بين بيت واحد ورباعية ومقطوعة وقصيدة طويلة، لعدد من الشعراء والأدباء من جنسيات مختلفة وباللغات العربية والفارسية والأردوية والإنكليزية.

في مقدمتهم معد الكشكول (عشرون بيتًا أو مقطوعة أو قصيدة)، ومنهم:

  • د. سلمان آل طعمة (العراق) – قصيدتان

  • الشيخ سلطان علي نوحه خوان الصابري (إيران) – 8 قصائد

  • الشاعر جعفر الشيخ عباس الحائري (العراق) – قصيدة

  • الشيخ عبد الأمير النصراوي (العراق) – قصيدة

  • السيد مرتضى السندي الحسني (العراق) – قصيدة

  • د. عبد العزيز شبّين (الجزائر) – 5 قصائد و4 رباعيات

  • عُدي كرماشة (العراق) – قصيدة

  • د. ناصر النجفي (العراق) – قصيدة

  • السيد حسين البزاز الموسوي (العراق) – قصيدة إنكليزية

  • د. محمد جواد الوزني (العراق) – قصيدة

  • رضا الخفاجي (العراق) – قصيدة

  • الشيخ مصطفى نصيري (إيران) – قصيدة بالفارسية

  • السيد عامر علي الكاظمي (باكستان) – قصيدة أردية

  • محمد علي الحلاق الحائري (العراق) – قصيدة

وجاءت عناوين التقريظات على النحو التالي:
الوجه الصبوح، أكبرت مجدك، مضى حفيد مالك، قد كنت حبراً فقيهاً، عنوان العلم والتقى، آية الحق، جبل شامخ، ضاء كالنبراس، شيخي ووالدي، ذكرى والدي... وغيرها.

واختُتمت بنونية الشاعر الجزائري د. عبد العزيز شبّين بعنوان:

"كشكول كالزهر في نَيْسانه"
من بحر مجزوء الرجز، قال في مطلعها:

كشكولُ من ألوانه *** كالزَّهر في نَيْسانِه
أوراقُه حملن ما ** منه شذا أغصانِه

ويختمها بقوله:

كشكولُ حرفٍ هاجَه الـ *** ــسرُّ بمهرجانه


فصول الكشكول

لأن كشكول الأب ضمَّ (256) عنوانًا في معارف شتى، فإن الكرباسي الابن وزعه في أربعة عشر فصلًا:

  • الأدب العربي والفارسي: 63 عنوانًا

  • التراث الإسلامي: 12

  • المواعظ والحكم: 27

  • الحافظة وتقويتها: 8

  • بعض الفوائد المهمة: 32

  • قضايا تاريخية: 18

  • النوادر: 14

  • الحكايات: 28

  • النساء الفاضلات: 13

  • الأكّالين النهمين: 3

  • المناظرات: 5

  • العقائد: 11

  • الدعاء والتميمة والحرز: 12

  • المستدركات: 10


في الختام

لا شك أن لكل كاتب ومؤلف وأديب، قصاصات ومعلومات واستلالات قيّدها في أوراق أو دفتر. وهي تمثل مجموع ما استراح إليه عند مطالعته لهذا الكتاب أو ذاك، أو ما تناهى إلى سمعه.

ولو أمكن لكل منهم إظهارها إلى النور في كتاب، بعد عمر مديد من العطاء، لتوفرت لدى المكتبات الكثير من الكشاكيل المفيدة والنافعة.

الرأي الآخر للدراسات – لندن
كاتب عراقي مقيم في لندن

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0