فهرسة المحررات تناجي صاحب الرأي لتنضيد المؤلفات

الكتابة والتأليف

أكتوبر 17, 2025 - 19:05
 0
 فهرسة المحررات تناجي صاحب الرأي لتنضيد المؤلفات

د. نضير الخزرجي

الكتابة والتأليف صنعة كأية مهنة يتداولها الإنسان، تبدأ كهواية وتنتهي كاحتراف ومهارة، ولكنها تكاد تنفرد بين الحرف والصناعات أن أدواتها في الغالب تكون في غرفة أو زاوية من زوايا المنزل. فالنجار أدواته في ورشة عمله، وتقني السيارات في مرآب عمله وكراجه، والصائغ في محل عمله، حتى ولو كان الكاتب والمؤلف والباحث يعمل في صحيفة أو مؤسسة ثقافية أو مركز بحثي أو جامعة أو مدرسة علمية أو دينية وما شابه، فستظل أدواته هي الأخرى قائمة في منزله ولو بشكل مختصر، فإحدى أدوات الكاتب هي المصادر والمراجع ومؤلفات الآخرين التي يرجع إليها أو يستزاد منها معرفة أو يستمتع بقراءتها ولو من باب الترفيه المعرفي، فالكاتب إذا ملَّ من قراءة كتاب ينتقل الى آخر ترفيها وترويحا عن النفس، وهذه الكتب شاء أم أبى ملازمة للكاتب في منزله ومكان عمله ولا فكاك منها.

 الكاتب والمكتبة: علاقة أبدية

وعدد غير قليل من الكتاب عندما تحيله دائرة عمله على التقاعد، يجد منجاته من الملل والضجر والانقطاع القسري عن أصدقاء الأمل وخلان العمل في اللجوء إلى أدواته ومكتبته الشخصية يقضي عندها ساعات ارتياحه وضجره، وهي متعة لا يجد مبلغ الانتشاء فيها إلا أصحاب الرأي الذين يعتبرون مداد القلم ماء حياة للإنسانية.

وفرت وسائل التواصل الاجتماعي روزنة جديدة يطل منها الكاتب على العالم إن كان حراً أو مقيداً بوظيفة عمل أو متقاعداً، وهي نافذة مشرعة جميلة ومفيدة وإن كان عيبها أنها بلا قضبان حديدية أو حواجز تحجر على المتطفل الولوج إلى باحة المعرفة، فصار كل من يدخلها ولو كان متعكزاً على كلمات عرجاء كاتباً ومؤلفاً(!).

 من العالم الافتراضي إلى الخلود الأدبي

وما يميز عالم التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية بالنسبة للكاتب والمؤلف عن عالم ما قبل النت، أن الكتابات تبقى عائمة في العالم الافتراضي يستطيع أن يرجع إليها متى ما أراد، وفي عالم ما قبل النت والشبكة العنكبوتية تظل الأوراق والكتابات محشورة في مكتبته الشخصية أو متناثرة هنا وهناك، إذا لم يسعف الحظ كاتبها في جمعها بين الطيتين ويظهرها للعلن في كتاب مطبوع ضاعت مع أول يوم يوضع فيه خده الأيمن على أديم الأرض منتظراً قدوم الملكين المقربين منكر ونكير ليسألانه عن عمره فيما أفناه، ويكون هذا الثاوي في باطن الأرض محظوظاً لو ترك من ورائه ابناً صالحاً يجمع ما خطه يمينه ولم تسعفه الأيام في طباعتها، فيكون الثاوي أكثر حظاً فيظفر بالثلاثية الغنّاء: (إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) كما أخبرنا بذلك رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، لأن الكتاب كما أعتقد هو أحد مصاديق الصدقة الجارية، وإذا ظفر الإنسان بهذه الثلاثية بعد رحيله فقد نال حظاً عظيماً وقليل ما هم، لأن معظم الأبناء ومن خلفهم يعيشون في عالم آخر لا يعنيهم ما كتب والدهم وألف وما ترك من علوم ضاقت عليه الدنيا فلم يستطع تنضيد أوراقها في كتاب ينتفع منه الناس.

 فهرسة المحررات: جهد توثيقي مميز

وقد لا يأتي الظفر من الابن المباشر، فقد يقدم الحفيد أو حفيد الحفيد على جمع ما تناثر من علوم الجد الأعلى ليكون في متناول يد العالم والمتعلم، وهذا ما أقدم عليه الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي عندما جمع آثار أجداده وأبيه في كتاب من ثلاثة أجزاء أسماه "فهرسة المحررات في شرح المؤلفات" مع عنوان أصغر أطلق عليه "تحفة نبوغ الكرباسي في نتاج نسوغ الرواسي" إشارة إلى جهوده الطيبة في جمع وتوثيق مؤلفات الرواسي من أجداده العلماء ابتداءً من الجد الخامس، وانتهاءً بأبيه.

 أجداد ووالد: سلسلة علمية متصلة

وحيث وثَّق المؤلف الكرباسي في الجزء الأول مؤلفات جده الخامس الفقيه الشيخ محمد جعفر بن محمد طاهر الكرباسي الأشتري النخعي (1080- 1175هــ = 1669- 1761م)، وثَّق في الجزء الثاني حياة جده الرابع الفقيه الشيخ محمد حسن بن محمد جعفر الكرباسي الأشتري النخعي (ن 1150- 1190هـ = 1737- 1776م)، وحياة ومؤلفات جده الثالث الإمام الشيخ محمد إبراهيم بن محمد حسن الكرباسي الأشتري النخعي (1180- 1261هــ = 1766- 1845م)، وفي الجزء الثالث الصادر في بيروت حديثا (2025م) عن بيت العلم للنابهين في 289 صفحة من القطع الوزيري وراجعه وعلّق عليه (الكاتب) الدكتور نضير الخزرجي وثّق مؤلفات جده الثاني الفقيه الشيخ محمد جعفر بن محمد إبراهيم الكرباسي الأشتري النخعي (1219- 1292هــ = 1804- 1875م)، وجده الأول المباشر الفقيه الشيخ أبو تراب علي بن محمد جعفر الكرباسي الأشتري النخعي (1279- 1337هـ = 1862- 1919م)، ثم مؤلفات والده الفقيه الشيخ محمد بن أبو تراب علي الكرباسي الأشتري النخعي (1324- 1399هــ = 1906- 1979م).

منهجية التوثيق: شمولية وعمق

اعتمد المؤلف في تقديم أجداده وتوثيق مؤلفاتهم منهاجاً متشعب المحاور، قام أساسه على بيان سيرة المترجم له وأهم المحطات في حياته الشخصية والعلمية وما أبدع يراعه من علوم ومؤلفات.

ومن محور الترجمة الشخصية يدخل على محور كل كتاب والتعريف بهويته مبيناً: عنوانه، وحجمه، وعدد أجزائه، ولغته، وعدد الصفحات، وتاريخ التأليف، ومكان التأليف، وتاريخ الطبع إن كان مطبوعاً، والدار الناشرة، والمقدم للكتاب أو المعلق عليه، ولونه ما إذا كان نثراً او نظماً، وموضوعه، ومختصر عن مضمونه.

 تقريظ الشعراء والأعلام

ومن محور الهوية إلى محور تقريظ الكتاب ومؤلفه، حيث آل المؤلف الكرباسي على نفسه أن يلحق بكل كتاب بقصيدة تقريظية لشعراء بلغات عربية وفارسية وتركية توثق نظماً الكتاب وناثره، إلى جانب بيان سيرة الناظم وترجمته والتعريف به، وقد ضم الجزء الثالث (27) قصيدة ومقطوعة واحدة للشعراء من العراق وإيران والجزائر.

كما اشتمل هذا المحور على تقريظين نثريين، أحدهما لمرجع التقليد السيد شهاب الدين محمد حسين بن محمود المرعشي النجفي الحسيني (1315- 1411هــ = 1897- 1990م)، والآخر لمرجع التقليد السيد مهدي بن حبيب الله الشيرازي الحائري الحسيني (1304- 1380هــ = 1886- 1961م).

 إنجاز توثيقي متميز

يمثل الجزء الثالث استمراراً للباب الأول من "فهرسة المحررات في شرح المؤلفات" واشتمل على الفصل الرابع والخامس والسادس غطى 21 كتاباً، فيما اشتمل الجزء الأول على فصل واحد وضم 20 كتاباً، وثلاثة فصول للجزء الثاني وضم 29 كتاباً، والمجموع 70 كتاباً أعطى المؤلف جزءاً من وقته الثمين في توثيق علوم الأجداد والأب ليكون في المتناول.

دعوة للخلود الأدبي

في الواقع عندما انتهيت من قراءة الكتاب انتابني شعور بالقلق من أن يمضي بنا العمر إلى مثوانا دون أن نضع ما حررنا من مقالات ودراسات في كتاب مطبوع، فليس المرء بضامن أن يعمد خلفه أو ذريته إلى طباعة ما ألف وخط، وهي دعوة لكل صاحب قلم أن ينتهي من طباعة مؤلفاته في حياته، فليس كل خلف هو محمد صادق الكرباسي!

كاتب عراقي مقيم في المملكة المتحدة
الرأي الآخر للدراسات- لندن

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبني لم يعجبني 0
أحببته أحببته 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0