فهرسة المحررات تحكي وفاء الأحفاد في حفظ تراث الأجداد
من أصعب اللحظات على المرء أن يفقد عزيزًا، وأصعبها مرارة فقد فلذة كبده

د. نضير الخزرجي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
الكتاب المفقود.. كفقد الولد
من أصعب اللحظات على المرء أن يفقد عزيزًا، وأصعبها مرارة فقد فلذة كبده. ومن أصعب اللحظات على قلب الكاتب أو المؤلف أن يفقد كتابًا خطه بيمينه وسهر الليالي على تحبيره، بخاصة إذا كان الكتاب بخط اليد قبل أن يُنضَّد في الحاسوب. فتلك مصيبة لا تعدلها إلا مصيبة فقد الولد.
زيارة المؤرخ الصفار ووصيته
في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2014م، قمتُ بزيارة للمؤرخ العراقي الفقيد الأديب سعيد هادي الصفار الحائري (1931-2022م) في مقر إقامته بمدينة القنيطرة بالمغرب. وألزمني وصية في عنقي ترجّاني أن أحققها له، وهي متابعة ميدانية لمؤلفاته المخطوطة التي تركها مع مكتبة كبيرة في بغداد، وتبرع بها إلى مؤسسة "القليل خير من الحرمان" الخيرية في كربلاء، بإدارة الحاج أزهر الركابي.
وصل إلى مسامعه أن المكتبة قد تعرضت للتلف بسبب الرطوبة وحشرة الأرضة، فأراد التأكد من ذلك، وعهد إليّ بالمهمة، فوعدته خيرًا.
الزيارة المؤلمة لكربلاء
في التاسع من كانون الثاني/يناير 2015م، زرتُ المؤسسة في منطقة الفريحة شرق كربلاء، ووقفت على المكتبة والمخطوطات، ولم أعثر سوى على مخطوطتين من أكثر من عشر مخطوطات، إضافة إلى حوالي 250 كتابًا هو ما تبقى من مكتبته. كانت المكتبة ضحية النظام البائد الذي كان يتصيد أصحاب القلم والرأي، فكانت تهمة "الرجعية" أو "معاداة الحزب" كفيلة بتلف المكتبات أو إعدام أصحابها.
بين الأمانة والمرارة
تألمت كثيرًا لما حلَّ بالمكتبة. ومع معرفتي بتعلّق الفقيد الشديد بمؤلفاته عن مدينته المقدسة كربلاء، اضطررت لإخباره بما رأيت، رغم قرح القلب وعِظم الجراح. فأجابني بقوله: "حسبي الله". وكي يرى الفقيد ما تبقى من تراثه، عملت بالتنسيق مع دائرة المعارف الحسينية بلندن وراعيها المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، ومع نجله، على تحقيق إحدى المخطوطات وهي: "مشاهد رأس الحسين"، التي طُبعت في بيروت عام 2022 عن بيت العلم للنابهين.
الخسارة المعرفية و"أصحاب العدم"
رغم الخسارة الكبيرة، إلا أن الفقيد كان محظوظًا مقارنةً بغيره ممن فقدوا كامل تراثهم. فقد ضاع تراث بعض العلماء بأيدي أبنائهم، إما تضييعًا أو بيعًا بثمن بخس، أو تحجيرًا عليه تحت عنوان "الحفاظ على التركة".
الوفاء المعرفي للأجداد
في مقابل "أصحاب العدم"، هناك أحفاد أوفياء سعوا ليس فقط لإحياء تراث آبائهم، بل أيضًا تراث الأجداد. وهو ما فعله المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتابه:
"فهرسة المحررات في شرح المؤلفات"
الذي صدر حديثًا (2025م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين، في 400 صفحة من القطع الوزيري.
"تحفة النبوغ في نتاج النسوغ"
العنوان الأصلي للفهرسة هو "تحفة النبوغ في نتاج النسوغ"، وقد أضفتُ عليه عند المراجعة عنوانًا موسعًا:
"تحفة نبوغ الكرباسي في نتاج نسوغ الرواسي"،
في دلالة على النماء والعطاء الممتد بين الجد والحفيد.
فـ"النسغ" بالنسبة للشجر كالدم للإنسان، وهو ما يعبر عنه المؤلف في ربطه بين العلم والامتداد الحيوي للأسرة العلمية.
الشجرة الكرباسية وامتدادها
وثّق المحقق الكرباسي مؤلفات أجداده بدءًا من الجد الخامس الشيخ محمد جعفر بن محمد طاهر الكرباسي (1080–1175هـ) حتى والده الفقيه آية الله الشيخ محمد الكرباسي (1324–1399هـ).
ويعود نسب هذه الشجرة العلمية إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر النخعي.
منهجية فريدة في الفهرسة
اتّبع المؤلف منهجًا علميًا وأدبيًا دقيقًا، تضمن:
-
تقديم الكتاب من قبل حفيده العلامة الشيخ محمد علي الكرباسي.
-
توثيق مؤلفات الأجداد، وهو جهد نادر بين العلماء.
-
توزيع الفهرسة على ثلاثة أجزاء، تشمل مؤلفات الجد الخامس إلى الوالد.
-
ترجمة سيرة كل جد وتعريف شامل بكل مؤلف.
-
إلحاق كل كتاب بقصيدة تقريظية ومسمطة شعرية.
-
إرفاق صور المخطوطات الأصلية وترجمة بعض فصولها.
مسمطات شعرية وتقريظات أدبية
الكتاب يضم 20 مسمطًا شعريًا و21 قصيدة تقريظية لشعراء من العراق، الجزائر، إيران، السعودية، لبنان، الكويت وتركمان العراق.
من بينها:
-
"التحفة الأنوار في النبوغ" – د. عبد العزيز شبين (الجزائر)
-
"علم الهداية" – السيد مرتضى السندي (العراق)
-
"سِفْرٌ جامع" – محمود كرم (الكويت)
-
"ماء الحياة" – نزار الحداد (العراق)
-
"طيب الأرومة" – عبد الحسن دهيني (لبنان)
كتاب يُنير درب الباحثين
العمل الذي قام به المؤلف ليس عاديًا، بل هو جهد توثيقي نادر تتبّع فيه المؤلفات في عدة بلدان. وكما قال المقدم الشيخ محمد علي الكرباسي:
"الكتاب مصباح مضيء من جملة مصابيح ثريا التأليفات الكرباسية التي رفدت المكتبة الإسلامية منذ قرون".
ختامًا
هذا العمل يمثل قمة الوفاء العلمي، ويكشف عن الامتداد الثقافي بين الأجيال، حيث لم يكتفِ الكرباسي بتوثيق تراثه، بل وثّق تراث من غابوا عن الدنيا، ليبقوا أحياءً بعلمهم.
الكاتب: د. نضير الخزرجي
كاتب عراقي مقيم في لندن
الرأي الآخر للدراسات – لندن
ما هو رد فعلك؟






