«الكيمتريل»... بين خرافات المؤامرة والعلم الغائب
كيف تحولت خطوط الطائرات في السماء إلى مادة للريبة؟

بين حين وآخر، تعود إلى الواجهة نظرية «الكيمتريل» التي تعتبر واحدة من أبرز نظريات المؤامرة انتشارًا، خاصة في العالم العربي، حيث تتردد عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتكتسب زخماً جديداً كلما شهدت المنطقة أو العالم توترات سياسية أو أزمات بيئية.
تقوم النظرية، التي ظهرت لأول مرة في تسعينيات القرن الماضي، على زعم أن الخطوط البيضاء الكثيفة التي تخلّفها الطائرات في السماء ليست ناتجة عن بخار الماء كما تقول التفسيرات العلمية، بل هي «مسارات كيميائية» تُرش عمداً بهدف تسميم السكان أو التأثير في سلوكهم أو حتى خفض خصوبتهم في إطار خطة عالمية لتقليل عدد البشر والسيطرة عليهم.
وبحسب روّاد النظرية، فإن هذه المواد الكيميائية تُستخدم لأغراض متعددة، منها التلاعب بالطقس، التحكم النفسي بالبشر، أو تنفيذ أجندات سياسية وجيوسياسية، ويذهب أكثرهم تطرفاً إلى القول إن هدفها هو خفض عدد سكان العالم إلى مليار نسمة فقط، لإفساح المجال أمام نخبة خفية تحكم العالم من وراء الستار.
أصل الحكاية: من تقرير عسكري إلى فضاء الإنترنت
ظهرت الفرضيات الأولى حول "الكيمتريل" عام 1996، بعد نشر القوات الجوية الأميركية تقريرًا حول إمكانيات استخدام تقنيات تعديل الطقس في الحروب المستقبلية. ورغم أن التقرير لم يدّع وجود برامج فعلية، فإن بعض الأصوات استغلته لبناء سرديات تشكك في نوايا الحكومات.
ومنذ أواخر التسعينيات، وجدت النظرية بيئة خصبة في الإنترنت ومنتديات "نظرية المؤامرة"، لتنتقل لاحقًا إلى برامج إذاعية شهيرة مثل برنامج "أرت بيل"، حيث ساهمت هذه المنصات في ترسيخ الفكرة وتوسيع قاعدتها الجماهيرية.
ورغم أن الحكومات والوكالات البيئية ردّت على المزاعم بنفي قاطع، معتبرة أن هذه الظاهرة الجوية تُعرف علميًا باسم "مسارات التكثف" (Contrails)، فإن منظري المؤامرة رأوا في ذلك تأكيدًا إضافيًا على وجود مؤامرة يجري التستر عليها.
العلم يقول كلمته
علميًا، تشرح وكالات الفضاء والأرصاد الجوية أن هذه الخطوط البيضاء تتكوّن حينما تمر الطائرة في طبقات الجو العليا حيث تكون درجات الحرارة منخفضة للغاية، فيتكثف بخار الماء الناتج عن احتراق الوقود ويتحوّل إلى بلورات ثلجية صغيرة، يمكن أن تظل في الجو لساعات إذا كانت الرطوبة مرتفعة، تمامًا كما تبقى السحب.
في عام 2016، نشرت دراسة علمية واسعة النطاق شارك فيها 77 عالمًا من كبار المتخصصين في الغلاف الجوي والجيوكيمياء، وخلصت إلى عدم وجود أي دليل على برامج لرش مواد كيميائية في الجو. وقال 76 من أصل 77 مشاركًا إن جميع الأدلة التي يستشهد بها أنصار نظرية الكيمتريل يمكن تفسيرها من خلال عمليات فيزيائية طبيعية.
أما جامعة هارفارد، فذهبت أبعد من ذلك بإصدار دراسة مشابهة أكدت فيها أن نظرية "الكيمتريل" تفتقر إلى أي أسس علمية، ولا توجد مؤشرات أو أدلة تدعمها في العينات الهوائية أو الملاحظات البيئية.
الانتشار الاجتماعي والديني للنظرية
رغم هذا النفي العلمي القاطع، وجدت النظرية رواجًا كبيرًا بين قطاعات من الجمهور، حتى في الدول الغربية. دراسة أجريت عام 2011 أظهرت أن نحو 2.6% من السكان في الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة يؤمنون تمامًا بالنظرية، بينما عبّر 14% عن تصديقهم لها جزئيًا. وفي عام 2017، أشارت مجلة Nature إلى أن نحو 10% من الأميركيين أصبحوا يؤمنون بها بشكل تام، وقرابة 30% يرون أنها «قد تكون صحيحة».
في العالم العربي، لا توجد إحصاءات دقيقة حول مدى انتشار النظرية، ولكن البحث البسيط عبر قنوات يوتيوب وصفحات فيسبوك وتغريدات تويتر، يظهر حجم التفاعل الكبير معها، حيث تنتشر مقاطع فيديو توثق خطوط الطائرات وتقدّمها كـ«دليل مادي» على وجود كيمتريل، مصحوبة بتحذيرات جماعية، أبرزها نصائح بوضع قطع من فحم الشواء قرب النوافذ لحماية المنازل من «التسمم الهوائي»!
اللافت أن بعض المتأثرين بهذه النظرية يصفون تحوّلهم إلى الإيمان بها كما لو أنه نوع من "الصحوة الدينية"، أي لحظة وعي كاشف تنتشل الفرد من الجهل إلى «الحقيقة» – على حد تعبيرهم. وهو ما يؤدي أحيانًا إلى ردود فعل متطرفة، تصل إلى حد إرسال تهديدات لباحثين وأكاديميين يشاركون في مؤتمرات علمية أو بيئية.
لماذا تنتشر نظريات كهذه في العالم العربي؟
يرى خبراء الاجتماع والإعلام أن انتشار نظريات المؤامرة في المجتمعات العربية ليس ظاهرة معزولة، بل يرتبط بجملة من العوامل الثقافية والسياسية والنفسية، من أبرزها:
-
حالة التشكك العام في السلطات والمؤسسات الرسمية؛
-
الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تضعف الثقة في الدولة والمجتمع؛
-
ضعف التعليم العلمي والتفكير النقدي في المناهج والمؤسسات التربوية؛
-
وما يعرف بـ"عقدة الخواجة"، أي ميل الناس لتصديق كل ما يُقال بالإنجليزية أو يأتي من مصدر أجنبي، دون تدقيق علمي.
في مثل هذه البيئات، تصبح نظريات المؤامرة وسيلة لتفسير ما يبدو غير مفهوم أو غير منطقي، بل وتؤدي دورًا نفسيًا في تخفيف القلق الاجتماعي، حتى وإن كانت هذه التفسيرات نفسها غير صحيحة.
ختاماً سواء تعلق الأمر بالكيمتريل أو غيره من نظريات المؤامرة، فإن التعامل معها يتطلب جهدًا متواصلاً في تعزيز الوعي العلمي والتفكير النقدي، إلى جانب نشر المعلومات الموثوقة من مصادرها المعتمدة. فالمعركة الحقيقية ليست فقط ضد الشائعات، بل ضد المناخ الذي يجعلها قابلة للتصديق.
ما هو رد فعلك؟






