عندما يرجح مداد العلماء على دماء الشهداء
المشيئة الإلهية والواقع الإنساني

د. نضير الخزرجي
المشيئة الإلهية والواقع الإنساني
عوَّدنا الكبار أن تكون عبارات التطمين من قبيل (إنشاء الله) (بإذن الله) رهينة الوعود والعزم على إمضاء الأمور، لأن المرء محكوم بحوادث الساعات ووقائع الأيام، وليس له أن يعلم تحت أشعة شمس النهار ما يستره ظلام الليل، وليس له أن يدرك تحت جنح الليل ما تخفيه انبلاجات ضوء الصباح، وهذه من الأمور التي يبتلى بها كل إنسان ويلمسها فليس له أن يغير من دولاب الأيام وتقلباتها، ولذلك كانت كلمات المشيئة الإلهية والإذن الرباني وأمثالهما لصيقة بأحاديثنا، ربما يلقيها الكبار على الصغار من باب التقليل من متطلباتهم أو التنصل منها لأسباب كثيرة، ويلقيها الذكور على الإناث لعلَّ ضياء النهار يمحو وعود الليل، ولكنها بين الكبار إقرار بواقع ربما يتغير بين ساعة وأخرى أو ليلة وضحاها، وفي المأثور عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام أنَّ رجلاً قام وسأل عليا عليه السلام: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال عليه السلام: "بفسخ العزم، ونقض الهم، لما هممت فحيل بيني وبين همي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، علمت أنَّ المدبر غيري". وهو القائل: "عرفت الله بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم"، والقائل: "عُرف الله سبحانه بفسخ العزائم، وحل العقود، وكشف الضر والبلية عمن أخلص له النية".
رحلة مصر 2010: تجربة الأقدار
في عام 2010م سافرت إلى مصر في رحلة عائلية لقضاء عطلة الربيع المدرسية، وذلك عبر الخطوط الإيطالية (Alitalia) وكانت العاصمة الإيطالية روما محطة التوقف (ترانزيت) ذهاباً وإياباً، وقبيل انتهاء أيام الرحلة القاهرية ثارت براكين جزيرة أيسلاند فعمت الأتربة النارية سماء أوروبا وتوقف الطيران بين دولها لأسبوع وخيرتنا الخطوط الإيطالية بين البقاء في القاهرة حتى تنجلي الغبرة أو الطيران إلى روما والبقاء فيها حتى يتم فتح المجال الجوي نحو بريطانيا، فكان الخيار في الخيار الثاني وما جرت فيه من مغامرات ومشاكل غير محسوبة كان لشرطة إيطاليا تدخل في حل بعضها.
رحلة إيران 2025: الأقدار تتكرر
في عام 2025م كانت لنا رحلة صيفية مع الأهل إلى إيران عبر مطار النجف الأشرف بالعراق بواسطة شركة خطوط أفا الجوية (Ava air) الإيرانية، وكانت الرحلة الإيرانية انطلقت عصر الأحد 8 حزيران يونيو 2025م متضمنة زيارة مدينة مشهد المقدسة حيث مرقد الإمام الثامن من أئمة أهل البيت عليهم السلام الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وزيارة العاصمة طهران التي فيها قضيت سنوات الهجرة القسرية في الفترة (1980-1990م) على أن يكون الرجوع من مطار الإمام الخميني الدولي الى مطار النجف الأشرف عبر طيران خطوط شركة يزد (Yazd Airlines) يوم الأحد 15 حزيران يونيو 2025م، وهي رحلة تم التخطيط لها أثناء وجودي في لندن.
وما لم يكن في الحسبان في الرحلة الإيرانية لعام 2025م أن تكررت معنا تجربة الرحلة المصرية عام 2010م، فخلال وجودنا في طهران في فندق أراميس هاجمت إسرائيل فجر الجمعة 13 حزيران يونيو 2025م المنشآت الإيرانية وقتلت العشرات من الصف الأول من قادة إيران وأعلنت الحرب على طهران لإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية تمهيداً لعودة النظام الملكي، ومن الطبيعي وفي مثل هذه الظروف أن توقفت حركة الطيران في إيران والعراق، وصار البحث منصباً عن وسيلة برية للعودة إلى العراق.
زيارة إصفهان والمصادفات الإلهية
ومثلما كانت الرحلة المصرية فرصة لقضاء ستة أيام في روما والتعرف على معالمها من غير سابق تخطيط وتصميم، كانت الرحلة الإيرانية فرصة طيبة لقضاء ليليتين إضافيتين في مدينة إصفهان من غير سابق تخطيط وتصميم أيضا، وبدلاً من التوجه إلى مطار الإمام الخميني للعودة إلى النجف الأشرف كما هو مقرر تركنا الفندق عبر سيارة أجرة خصوصي إلى إصفهان، ومنها عبر حافلة نقل بري إلى منفذ مهران الحدودي ومنه إلى مسقط الرأس كربلاء المقدسة، في رحلة استغرقت ثمان عشرة ساعة.
ومن فوائد الأقدار الإلهية التي كتبت لنا من غير عزم مسبق أن زرت في إصفهان مسجد حكيم التاريخي وفيه مرقد علامة زمانه الإمام محمد إبراهيم الكرباسي المتوفى يوم 8 جمادى الأولى سنة 1261هــ (15/5/1845م)، الذي شاءت الأقدار الإلهية أيضا أن أكون مشاركاً في العمل مع حفيده العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي لأكثر من ثلاثة عقود.
آثار الأجداد وأهمية التوثيق
ومن المشيئة الإلهية أن تكون قراءتي الموضوعية للجزء الثاني من كتاب (فهرسة المحررات في شرح المؤلفات) لمؤلف الشيخ محمد صادق الكرباسي، هي في الواقع قراءة لمؤلفات الإمام محمد إبراهيم الكرباسي المولود في إصفهان يوم 19 ربيع الثاني 1180هــ (1766م)، حيث عهد الحفيد على نفسه أن يوثق مؤلفات أجداده منذ الجد الخامس الشيخ محمد جعفر الآخوند الكرباسي (1669- 1761م)، وانتهاءً بأبيه العلامة الشيخ محمد الكرباسي (1916- 1979م).
الجزء الثاني من الكتاب الموسوم بعنوان جانبي هو "تحفة نبوغ الكرباسي في نتاج نسوغ الرواسي" إشارة إلى تحرير المؤلف الكرباسي لنتاجات أجداده، صدر في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 297 صفحة من القطع الوزيري، كان لي شرف مراجعته والتعليق عليه، وقدّم له من العراق العلامة الشيخ محمد عز الدين الكرباسي، وقرظه من لبنان الشاعر عبد الحسن دهيني.
فضل مداد العلماء على دماء الشهداء
مثل هذا التوثيق حفاظاً على التراث العلمي يستحق كل هذا الجهد المعرفي، فمداد العلماء أثقل ميزاناً من دماء الشهداء في حسابات رب العالمين، ففي الحديث النبوي الشريف:
"إذا كان يوم القيامة جمع الله عزَّ وجلَّ الناس في صعيد واحد، ووُضعت الموازين فتوزن دماءُ الشهداء مع مداد العلماء فيرجحُ مدادُ العلماء على دماء الشهداء"،
وفي حديث نبوي آخر:
"يوزن مدادُ العلماء يوم القيامة بدم الشهداء فيرجحُ مدادُهم على دمائهم أضعافاً مضاعفة"،
ويعلق الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني:
"مداد العلماء خير من دماء الشهداء .. هذا القول المأثور عميق في مغزاه وبليغ في معناه، إذ كيف يكون مداد العلماء أفضل من الدم المراق في سبيل الله، وهو أغلى وأنفس ما يقدّمه المرء من أجل الإنسانية والعدالة والحق. لعل السبب في ذلك أن مداد العلماء هو الشريان الذي يغدي أفئدة الناس ولبابهم بالعلم والمعرفة والفكر والتقوى، وهذه كلها الموجِّه والمرشد للعقل البشري لرفض الظلم والذل والطغيان، والركيزة التي يرتكز عليها طالبو الشهادة في سبيل الله وجذوة الجهاد في سبيل الله".
الكتاب والقصائد المقرظة
إذا كان المؤلف قد تناول في الجزء الأول مؤلفات الجد الخامس الشيخ محمد جعفر الكرباسي ووقف على قبره في مدينة يزد بإيران في أوائل شهر رجب المرجب من سنة 1445هــ (كانون الثاني يناير 2024م)، فإنه في الجزء الثاني تحدث عن جده الرابع الشيخ محمد حسن بن محمد جعفر الكاخكي الكرباسي الأشتري المتوفى في إصفهان سنة 1190هــ (1776م) ووقف على قبره في مقبرة تخت فولاد في 5 رجب 1445هــ (16/1/2024م)، وتحدث بإسهاب عن جده الثالث ومؤلفاته الإمام محمد إبراهيم بن محمد حسن الكرباسي (1766- 1845م) الذي زار مرقده في اليوم التالي.
لم يُقيد عن الجد الثالث من مؤلفات، ولهذا اكتفى المؤلف بعد الحديث عن سيرته القول:
"(لم يظهر أنه ألَّف كتاباً أو ربما ألَّف وضاع أو أنه انشغل عن التأليف لأمرين: أحدهما كثرة ترحاله، وثانيهما: اهتمامه بإنشاء المراكز العلمية مما لم يدع لنفسه مجالاً للتأليف)".
أما الجد الثالث، فما وصل بيد المؤلف هو (17) كتاباً أكثرها من المخطوطات، قيدها ووثقها مع بيان مضامينها، وقد أحسن الحفيد صنعاً عندما ألحق بكل كتاب من نظمه بيتاً تخميسياً، وصورة من الكتاب المطبوع أو المخطوط، وقصيدة أو مقطوعة لشعراء من بلدان مختلفة قرظ الكتاب مع ترجمة موسعة له.
أبرز المؤلفات والقصائد المقرظة
-
أجوبة المسائل: تقريظ الشاعر العراقي السيد حسين البزاز
-
أحكام نماز: للشاعر العراقي ناظم الفضلي
-
إرشاد المسترشدين: للشاعر الباكستاني الشيخ هاشم رضا الغديري الميثمي
-
إشارات الأصول ج1-5: مجموعة شعراء من العراق والجزائر والكويت
-
شوارع الهداية ج1-7 ومنهاج الهداية ونقد الأصول
-
عدد من القصائد باللغتين العربية والفرنسية
الختام
في الواقع يشكل الكتاب بما فيه من شروحات وقصائد وتراجم إضافة علمية معرفية وأدبية قيمة، لا غنى عنها في عالم التأليف.
كاتب عراقي مقيم في لندن
الرأي الآخر للدراسات - لندن
ما هو رد فعلك؟






