قبل العاصف: سردية الحرب من الصواريخ إلى النصوص الدينية (3/3)
انتهت الحرب بين إيران والكيان الإسرائيلي. اثنا عشر يومًا من القصف المتبادل والتهديدات النووية المبطّنة

رسل جمال
انتهت الحرب بين إيران والكيان الإسرائيلي. اثنا عشر يومًا من القصف المتبادل والتهديدات النووية المبطّنة انتهت، لكننا لم نعد أمام صراع جيوسياسي تقليدي. ما يجري أعمق من ذلك بكثير: نحن أمام مواجهة دينية وأنثروبولوجية شاملة. إنها حرب لا تدور فقط على خرائط الأرض، بل على خرائط السماء. صراع على السرديات، على التاريخ، وعلى النبوءات.
نصوص تتقاطع مع السماء
في طهران وتل أبيب، بُعثت النصوص القديمة من بطون الكتب، وعادت مرويات المهدي المنتظر ونبوءات الملاحم والفتن في مقابل أشعيا وحزقيال ونصوص التوراة. كل طرف بات يتكلم عن "حق إلهي" في البقاء، وكأنّ الصراع لم يعد بين دولتين، بل بين رؤيتين كونيّتين للحقيقة والتاريخ.
وفي الشوارع العربية والإسلامية، ارتفعت وتيرة البحث عن علامات آخر الزمان، وتحوّلت مواقع التواصل إلى منصات لتحليل الأحاديث والرؤى. الجميع يكرر الروايات ويعيد قراءة ما كُتب عن "الرايات السود"، و"جيش السفياني"، و"دابة الأرض"، وكأنّ المنطقة تعيش لحظة "تجلي النص" في الواقع.
العراق: بركان تحت الرماد
وسط هذا المناخ المحتدم، يبدو العراق على حافة الانفجار. الاحتقان الطائفي يُبعث كل بضعة أسابيع بحملات إعلامية ممنهجة تستهدف رموز المقاومة والحشد والمرجعية. الاتهامات تتطاير من "العمالة" إلى "هتك العرض"، في محاولة متعمدة لتسقيط آخر ما تبقى من رموز ما بعد داعش.
ما يُعرض ليس بريئًا ولا عفويًّا، بل يُستخدم لهدم الوعي الجمعي وتفجير الغضب الشعبي في توقيت دقيق. الفوضى لا تأتي من فراغ، بل تُدار عن بُعد وتُنسج خيوطها بحرفية لتنتج لنا مسرح عبثٍ مرير.
التفتيت الناعم والفوضى الخلّاقة
ما يبدو كمشهد متفرق — من حرب إيرانية-إسرائيلية، إلى تسقيط شخصيات دينية في العراق — هو في الواقع جزء من مشروع متكامل: تفكيك المنطقة عبر ضرب سردياتها، ثم إعادة تركيبها ضمن هندسة جديدة.
الاستهداف لم يعد موجهًا لأشخاص أو تيارات فقط، بل لـلمعنى نفسه. تُشوّه المفاهيم عمدًا: المقاوم يُصوَّر كـمتهم، والرمز يُسقط كـفاسد، والحشد يُشيطن كـمليشيا، والطائفة تُحول إلى عبء.
إنه التنفيذ المتأخر لمشروع "الفوضى الخلاقة"، الذي وُلد بعد الغزو الأمريكي لكنه يدخل الآن أخطر مراحله.
حرب السرديات: من يروي ينتصر
الحرب القادمة — بل الجارية الآن — لن تُحسم بـالصواريخ فقط، بل بـالسرديات. من يتمكن من فرض روايته على الواقع، هو المنتصر. أما من ينجرّ إلى الفتن ويسقط في فخ التسقيط والتشويه، فسينتهي إما تابعًا أو ضائعًا.
شعوب المنطقة، وبالأخص العراق، أمام معركة وعي حقيقية. ما يحدث من تسقيط وشحن وتحريض إعلامي، ليس سوى أدوات لـحرب خفية تستهدف الذاكرة والهوية والروح.
انتبهوا... فالقادم ليس صراع دول بل تصفية سرديات
ما نعيشه اليوم هو مقدمة لانهيار منظومات، وتفكك هويات، وصراع على من سيكتب تاريخ الغد. ليست حرب حدود ولا عقائد فقط، بل معركة وجود بين سرديات تمتد جذورها إلى عمق التاريخ البشري.
من يُسحق اليوم دون وعي، سيلعن غدًا زمن التهاون والتساهل والتفريط بالساحة.
فلا تكن أداة في حرب لا تفهمها، ولا تكن لسانًا ينطق بما صاغه العدو، ولا سهمًا يُطعن به ظهر من دافع عنك.
المعركة لا تعترف بـالحياد، والموقف الرمادي يُعامل كـالتواطؤ.
اختر موقعك الآن: إما في صف الوعي، أو بين من يُدفنون في مقبرة الفوضى الخلاقة، بصمت.
ما هو رد فعلك؟






