دستويفسكي و بوشكين
عين نيوز

د. ضياء نافع
آخر عمل إبداعي قام به دستويفسكي في حياته هو إلقاء خطابه عن بوشكين , عندما شارك في حفل تدشين تمثال بوشكين بموسكو في حزيران / يونيو 1880 ( انظر مقالتنا بعنوان – حول خطاب دستويفسكي عن بوشكين) , ولهذا يسمّي نقاد الادب هذا الخطاب ب (وصيّة) دستويفسكي قبل رحيله الأبدي , إذ حدّد دستويفسكي في ذلك الخطاب كل مفاهيمه عن الأدب ودوره في المجتمع, وعن قيمة بوشكين وأهميته لروسيا وشعبها وتاريخ أدبها من وجهة نظره, وليس من باب الصدفة أبداً , إن هتف بعض الشباب الذين كانوا يحيطون به في تلك الاحتفالية ويستمعون إليه وهو يلقي خطابه ذاك قائلين – ( إن دستويفسكي نبيّ ! ) , وهو التعبير المتحمس والمتطرّف عند الشباب في الكثير من بقاع العالم .
إلا أن الوقائع في حياة دستويفسكي لا تشير الى أنه كان يستشهد بنتاجات بوشكين أو أفكاره ومكانته أثناء مسيرته الإبداعية أو رسائله الى الآخرين , كما نرى ذلك بوضوح وصراحة عند بعض الأدباء الروس الكبار مثل غوغول أو تورغينيف أو تولستوي ...الخ , رغم أن دستويفسكي قد تقبّل خبر مقتل بوشكين في مبارزته الشهيرة برعب وحزن شديدين , وكان عمره آنذاك 16 سنة ليس إلا, وتشير بعض المصادر الروسية , الى أنه أراد حتى أن يعلن الحداد مع إخوته نتيجة هذا الحدث التراجيدي بالنسبة لهم , وعندما انتقلت عائلة دستويفسكي بعد فترة قصيرة من موسكو الى بطرسبورغ للعيش هناك, فانه كان يتحدث و يرغب فعلاً بزيارة تلك الغرفة , التي فارق فيها بوشكين الحياة في تلك المدينة .
ومع ذلك كله , فان موضوعة ( دستويفسكي و بوشكين ) لازالت تعدّ ولحد الآن واحدة من الموضوعات المثيرة والمهمة أمام الباحثين في مجال تاريخ الأدب الروسي من الروس ومن غير الروس أيضاً , اذ لم يسبق لأحد قبل دستويفسكي ان ( اكتشف!) مكانة بوشكين وقيمته وأهميته في تاريخ الادب الروسي , ولم تتكرر ظاهرة ( الاكتشاف) هذه بعد دستويفسكي أيضاً في مسيرة الأدب الروسي , وفي هذه النقطة بالذات تكمن أهمية هذه الموضوعة وطرافتها , إذ نجح دستويفسكي بتقريب بوشكين ( إن صحّ هذا التعبير) نحو الاتجاهات الفكرية , التي يؤمن بها دستويفسكي نفسه , بما فيها حتى محاولة اثبات أن بوشكين أقرب للنزعة السلافية من النزعة الغربية , حيث كان الصراع وطيساً في الفكر الروسي آنذاك بين النزعتين ( وكان دستويفسكي طبعا الى جانب النزعة السلافية ) . ومن الطريف أن نذكر هنا ما قاله غوركي مرة حول دستويفسكي وبوشكين , اذ أشار غوركي , الى أن دستويفسكي يجسّد ( العبقرية الروسية المريضة ) أما بوشكين فانه ( عبقريتنا السليمة ) , وكلمات غوركي تلخّص – بدقّة واضحة جداً - كل الموقف الفكري السوفيتي تجاه موضوعة (دستويفسكي و بوشكين) , وهو الموقف الذي استمر طوال كل الفترة السوفيتية كما هو معروف. هذا , وقد كتب أحد المعلقين حول قول غوركي ما يأتي – نعم , دستويفسكي عبقرية روسيّة مريضة , ولكنه كان يحب بوشكين بصدق وإخلاص , لهذا استطاع أن يثبت ما اكتشفه في نتاجات بوشكين بانه مفكّر روسي أصيل وكبير , وإنه يجسّد الفكرة الروسية والنموذج الأخلاقي للشعب الروسي كما حدّدت تلك ( العبقرية الروسية المريضة ).
إن أفكار دستويفسكي حول بوشكين ( والتي جاءت في خطابه المذكور ) هي الخلاصة النهائية لكل تأملاته حول الأدب الروسي والشعب الروسي والفلسفة التي يجب – من وجهة نظره – ان تنطلق و تسود في الحياة الفكرية الروسية ( وحقق دستويفسكي كل ذلك ارتباطا ببوشكين واستنادا إليه ) , وعلى الرغم من إنه انطلق من بعض الأفكار التي جاءت عن بوشكين عند بعض الأدباء و النقاد الروس قبله مثل بيلينسكي وغوغول ( خصوصاً عند غوغول , الذي يستشهد في بداية خطابه بكلماته عن بوشكين وكما يأتي – بوشكين هو ظاهرة استثنائية , ومن الممكن أيضاً الوحيدة للروح الروسية , وأضيف أنا من عندي - تنبؤية ) , إلا أن دستويفسكي استطاع في خطابه ذاك بلورة أفكار جديدة ومتكاملة عن بوشكين , وأن يقول كلمة جديدة بكل معنى الكلمة لم يسبقه أحد في إعلانها , ولهذا يشير الباحثون الى أن دستويفسكي ( اكتشف ) بوشكين , وقد أشار الأديب الروسي أكساكوف بعد أن أنهى دستويفسكي كلمته تلك الى ذلك قائلاً , إن هذه الكلمة قد حدّدت – وبحسم – المكانة الحقيقية لبوشكين في التاريخ الروسي .
ختاما اريد ان اتوقف هنا – وبايجاز - عند موقف شخصي طريف حدث معي مرة حول علاقة دستويفسكي وبوشكين , وذلك في الايام الاولى بعد وصولي الى جامعة باريس لاكمال دراستي العليا هناك في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي , اذ كنت واقفا في ممر القسم الروسي مع مجموعة من الطلبة الفرنسيين , وكانت هناك مدرّسة سوفيتية تقف معهم ايضا , وقد سألها أحد الطلبة السؤال الآتي – من هو الكاتب الروسي الذي كتب رواية بالرسائل ؟ فقالت انها لا تعرف , وان ذلك يقتضي البحث في المصادر الروسية , ثم توجهت اليّ قائلة – هل يمكن لك ان تساهم معنا في الحديث هذا , فقلت لها مبتسما – عندما كنّا ندرس في روسيا , فاننا كنّا نوصي بعضنا ان نجيب عن اي سؤال لا نعرف الاجابة عنه بدقة , انه على الاغلب بوشكين , ولكني اود هنا ان اقول بدقة , ان دستويفسكي قد كتب رواية بالرسائل , وهي روايته القصيرة (المساكين) , ولكن هناك في مسودات بوشكين توجد ورقة تحمل عنوان - رواية في رسائل , اي ان بوشكين فعلا خطط لذلك , ولكنه لم يحقق خطته . فسألني الطالب الفرنسي – وهل كان دستويفسكي يعرف بذلك ولهذا كتب روايته تلك ؟ فقلت له مبتسما – استخدم نفس جملة المدرّسة السوفيتية – لا اعرف , وان ذلك يقتضي البحث في المصادر الروسية .
ما هو رد فعلك؟
أعجبني
0
لم يعجبني
0
أحببته
0
مضحك
0
غاضب
0
حزين
0
رائع
0





